الحب النقي بين خديجة والنبي ﷺ :
( ١٥ ) الحلقة الخامسة عشرة من سيرة الحبيب ﷺ :
هيا بنا نُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم .
حب خديجة رضي الله عنها لمحمد ﷺ .
لما بلغ رسول الله صلى الله علي وسلم ٢٥ عامًا سافر بتجارة للسيدة خديجة رضي الله عنها إلى الشام مع غُلامها مَيْسَرَة ، وفي الشام باع صلى الله عليه وسلم سِلعَتَه واشترى ما أراد وربح ضعف ما كانت تربح خديجة رضي الله عنها ، ثم عاد لمكة ، فأعطى لخديجة رضي الله عنها ما لها عليه بأمانة تامة ونُبلٍ عظيم .
وفي مكة انطلق مَيْسَرة يُحَدِّثُ بما رأى من محمد صلى الله عليه وسلم من كرم الخُلُق وحُسن الصُّحبة وعِظَم الأمانة ، بل إنه حدَّث أيضًا بما رآه من إرهاصات النبوة التي لمسها وعاينها .. وما أكثر ما رأى في تلك الرحلة الجميلة !
أدلى ميسرة أيضًا بشهادته الصادقة المباركة عن الرحلة إلى خديجة رضي الله عنها ، فسُرَّت بأمانته وصدقه ﷺ ، ولِمَا نالها من بركة وربح بسببه صلى الله عليه وسلم .
و قد كتب الله تعالي الخير العظيم للسيدة خديجة رضي الله عنها حيث ألقى في نفسها أمنية كريمة مباركة جعلتها أسعد نساء العالَمين .
وقد كان الزعماء في مكة يحرصون على الزواج من خديجة رضي الله عنها لأجل مالها وجمالها وحسبها وخُلُقها ، فَتَأْبَى ذلك عليهم وتردهم جميعًا ، ولكنها وجدت ما تَنشُدُه وما تبغيه في محمد صلى الله عليه وسلم .
وأفضت بما يدور في نفسها إلى صديقتها نَفِيسَة ، فذهبت نَفِيسَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلَّمته في أن يتزوج خديجة رضي الله عنها ، فوافقها على ذلك .
فرجعت نَفِيسَة إلى خديجة رضي الله عنها تَحمِلُ خبر نجاحها في مُهمتها وزَفَّتْ إليها نبأ موافقة محمد صلى الله عليه وسلم .
فأرسلت خديجة إلى عمها عمرو بن أسد لِيُزَوِّجها ، فحضر وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت خديجة رضي الله عنها في جمع من آل عبد المطلب ، وفي مقدمتهم عمه حمزة رضي الله عنه وعمه أبو طالب ، وكان في استقبالهم عم خديجة رضي الله عنها .
ووافق عمها عمرو بن أسد ، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم وأَصدَقَهَا ( أي دفع مهرها ) عِشرين بَكرَةً ( أي أُنثى الإبل ) ، ونَحَر وأطعم الناس ، وعاش معها النبي صلى الله عليه وسلم خمسةً وعشرين عامًا ، ولم يتزوج عليها حتى ماتت .
وكل المصادر التي تكلمت عن السيدة خديجة رضي الله عنها وصفتها بـ” الحزم والعقل ” ، كيف لا وقد تجلَّت مظاهر حِكمتها وعقلانيتها منذ أن استعانت به صلى الله عليه وسلم في أمور تجارتها ، وكانت قد عرفت عنه الصدق والأمانة .
ثم كان ما جاء في أبلغ صور الحِكمة ، وذلك حينما فكرت في الزواج منه صلى الله عليه وسلم ، بل وحينما عرضت الزواج عليه في صورة تحفظ ماء الوجه ؛ إذ أرسلت السيدة نَفِيسَة بنت مُنَبِّه إليه بعد أن رجع من الشام ؛ ليظهر وكأنه هو الذي أرادها وطلب منها أن يتزوجها .
لا شك أن امرأة بمثل هذه الأوصاف لابد أن يكون لها منزلة رفيعة ، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يُعلن في أكثر من مناسبة بأنها خير نساء الجنة ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
” حسبُكَ مِن نساءِ العالَمينَ مَريمُ بِنتُ عِمرانَ ، وخَديجةُ بِنتُ خُوَيْلِدٍ ، وفاطمةُ بِنتُ مُحَمَّدٍ ، وآسيةُ امرأةُ فِرعَونَ “.
ليس هذا فحسب ، بل يُقرِئُها المولَى سبحانه وتعالى السلام من فوق سبع سماوات ، ويبشرها ببيتٍ من قصب في الجنة ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال : ” أتَاني جِبريلُ فقال : يا رسولَ اللهِ ، هذهِ خَديجةُ قد أَتَتْكَ مَعَها إِنَاءٌ فِيهِ إدامٌ أو طعامٌ أو شَرابٌ ، فإذا هيَ قد أَتَتْكَ ، فاقرَأ عَلَيها السَّلامَ مِن ربِّها ومِنِّي ، وبَشِّرهَا بِبَيتٍ في الجنَّةِ مِن قَصَبٍ ، لا صَخَبَ فيها ولا نَصَبَ “.
فطوبى لها رضي الله عنها .
ندعوكم لقراءة : زيد في بيت النبوة
- حب النبي لخديجة رضي الله عنها ، والوفاء لها :
كان حقًّا أن يكون لهذه الطاهرة فضل ومكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تسمو على كل العلاقات ، وتظل غُرَّة في جبين التاريخ عامَّة وتاريخ العلاقات الأسرية خاصَّة ؛ إذ لم يتنكَّر صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة التي عاشت معه حلو الحياة ومُرها ، بل ويعلنها على الملأ ، وبعد وفاتها ؛ وفاءً لها وردًّا لاعتبارها فيقول صلى الله عليه وسلم : ” إنِّي قَد رُزِقْتُ حُبَّهَا “.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يَنسَها طيلة حياته ، وبعد وفاتها ، وقد رزقه الله منها الذُرِّيَة .
فكان يُكثر من ذكرها ويتصدق عليها .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُكرم صواحب خديجة رضي الله عنها بعد موتها .
ولم يشهد التاريخ الإنساني رجلًا أشد وفاءً لزوجته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت :
( ما غِرتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، ما غِرتُ علَى خَدِيجَةَ ، وما رَأَيْتُهَا ، ولَكِنْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ( أي صديقاتها ) ، فَرُبَّما قُلتُ له : كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ ، فيَقولُ إنَّهَا كَانَتْ ، وكَانَتْ ، وكانَ لي منها ولَدٌ ).
لذلك السيدة عائشة رضي الله عنها كانت كُلَّما سمعت مديحًا من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم للسيدة خديجة رضي الله عنها تغار ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت :
( اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، أُخْتُ خَدِيجَةَ ، علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارتَاعَ لذلكَ ، فَقالَ : اللَّهُمَّ هَالَةَ .. قالَتْ : فَغِرتُ ، فَقُلتُ : ما تَذْكُرُ مِن عَجُوزٍ مِن عَجَائِزِ قُرَيْشٍ ، حَمْرَاءِ الشِّدقَيْنِ ، هَلَكَتْ في الدَّهْرِ ، قَد أبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنها ).
وقالت السيدة عاثشة رضي الله عنها :
( كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عَلَيْها ، فَأَحسَنَ الثَّناءَ ، قالت : فَغِرتُ يَومًا ، فقُلْتُ : ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدقِ ، قَد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها ).
فماذا قال لها النبي صلى الله عليه وسلَّم عن خديجة رضي الله عنها ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
” مَا أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها ، قَد آمَنَتْ بِي إذ كفَرَ بي الناسُ ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ “.
ألا هنيئًا لخديجة رضي الله عنها ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وحبه لها .
ونُكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله .