إعادة بناء الكعبة قبل البعثة :
( ١٨ ) الحلقة الثامنة عشرة من سيرة الحبيب ﷺ :
هيا بنا نصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم .
اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة قبل البعثة .
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لما أصابها من حريقٍ وسيلٍ جارفٍ صدّعَ جدرانَها ، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رضمًا ( أي حجارةً أو صخورًا ) فوق القامة فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها ، ولكنهم تخوَّفوا من هدمها .
فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمِها ، فأخذ المِعوَلَ ، ثم قام عليها وهو يقولُ : اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الرُّكنَين .
فانتظر الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أُصِيب ( أي الوليد بن المغيرة بسبب ما فعل ) ، لم نهدم منها شيئًا ، وردَدناها كما كانت ، وإن لم يُصِبه شيء فقد رضي الله صُنعنا ، فَهَدَمنَا .
فأصبح الوليدُ لم يمسَّه مكروهٌ ، فهدَمَ وهدمَ الناس معه ، حتى انتهى الهَدمُ بهم إلى أساس إبراهيم عليه السلام .
وكانوا قد جزَّؤوا العمل ، وخصُّوا كل قبيلة بناحية ، واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها .
وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس رضي الله عنه في بناء الكعبة ، وكانا ينقلان الحجارة مع قريش .
فلما وصل سادة قريش إلى مكان وضع الحجر الأسود تخاصموا ، وأرادت كل قبيلة أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، وكادوا يقتتلون فيما بينهم لينالوا هذا الشرف ، لولا أن أبا أُمَيَّة بن المُغيرة قال :
يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ( أي اجعلوا أول من يدخل من الباب يحكم بينكم ).
ففعلوا ، فكان أول داخل عليهم رسول الله ﷺ ، فلما رأَوه قالوا : هذا الأمين ، رَضينَا ، هذا محمدٌ ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال ﷺ : ” هَلُمَّ إِلَيَّ ثَوبًا ” ( أي أَحضِرُوا ثوبًا ) ، فأُتِيَ به ، فأخذ الرُّكن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : ” لِتَأخُذْ كُلُّ قَبيلةٍ بناحية من الثَّوبِ ” ، ثم ارفعوه جميعًا ، ففعلوا : حتى إذا بلغوا به موضعه ، وَضَعه هو بِيَدِه الشريفة ، ثم بَنَى عليه ﷺ .
ونلاحظ الآتي :
طريقة فضِّ التنازع كانت مُوَفَّقة وعادلة وحكيمة ، ورضي بها الجميع ، وحقَنَت دماء كثيرة ، وأوقفت حروبًا طاحنة ، ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى ، وهذا من توفيق الله لرسوله ﷺ وتسديده قبل البعثة ، لأن دخول رسول الله ﷺ من باب الصفا كان قدَرًا من الله ، لحل هذه الأزمة المستعصية ، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد ﷺ ، فهو الأمين الذي لا يظلم و لا يُحابِي ولا يُفسد ، وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء ﷺ .
إنَّ حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي ﷺ الأدبية في الوسط القرشي .
ولقد نال رسول الله ﷺ في هذه الحادثة شَرَفان ؛ شرف فصل الخصومة ووقف القتال المُتَوَقَّع بين قبائل قريش ، وشَرَف تنافَس عليه القوم وادَّخره الله لنبيه ﷺ ؛ ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين ﷺ ، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه من البيت .
إنَّ المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي ، وكمال التوفيق الرَّبَّاني في سيرة رسول الله ﷺ ، كما يلاحظ كيف أنَّ الله أكرم رسوله ﷺ بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأسهل طريقة ، وهذا ما تراه في حياته كلها ﷺ .
وذلك مَعْلَمٌ من معالم رسالته ﷺ ، فرسالته ﷺ إيصالٌ للحقائق بأقرب طريق ، وحل للمشكلات بأسهل وأكمل أسلوب .
وأصبح ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ، ورُفع بابها عن الأرض بحيث يُصعَد إليه بدرج ، لئلا يدخل إليها كل أحد ، فيُدخلوا من شاؤوا ، وليمنعوا الماء من التَّسَرُّب إلى جوفها .
وأُسنِد سقفها إلى ستة أعمدة من الخشب ، إلا أن قريشًا قصرت بها النفقة الطيبة عن إتمام البناء على قواعد إسماعيل عليه السلام ، فأخرجوا منها الحِجر ، وبنوا عليه جدارًا قصيرًا دلالة على أنه منها ؛ لأنهم شرطوا على أنفسهم أن لا يدخل في بناء الكعبة إلا نفقة طيبة ، فلا يدخل في نفقات البناء مهر بَغِيّ ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة لأحد .
ندعوكم لقراءة : فترة إعداد النبي ﷺ للنبوة
- ولقد بُنيت الكعبة خلال الدهر كله أربع مرات على يقين :
الأولي التي قام بها سيدنا إبراهيم ، بمساعدة ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
والثانية تلك التي بنتها قريش قبل البعثة ، واشترك في بنائها النبي ﷺ .
والثالثة عندما احترق البيت من رميه بالمنجنيق في زمن ” يزيد بن معاوية ” ، بفعل الحصار الذي ضربه ” الحصين السكوني ” على ” ابن الزُّبَير ” حتى يستسلم ، فأعاد ابن الزُّبَير بناءها .
والرابعة في زمن ” عبد الملك بن مروان ” بعدما قتل ابن الزبير ، حيث أعاده على ما كان عليه زمن النبي ﷺ ، لأن ابن الزُّبَير باشر في رفع بناء البيت ، وزاد فيه الأذرع الستة التي أُخرجت منه ، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع ، وجعل له بابين أحدهما يُدخَل منه والآخر يُخرَج منه .
وإنما جرَّأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ رسول الله ﷺ قال لها :
” يا عَائِشَةُ ، لَوْلَا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ ، لَأَمَرْتُ بالبَيْتِ ، فَهُدِمَ ، فَأَدخَلتُ فيه ما أُخْرِجَ منه ، وأَلْزَقْتُهُ بالأرضِ ، وجَعَلْتُ له بَابَيْنِ : بَابًا شَرقِيًّا ، وبَابًا غَربِيًّا ، فَبَلَغْتُ به أَسَاسَ إبْرَاهِيمَ “.
وقد شاء اللهُ تعالى بحكمته أن يُعِدَّ الناسَ لاستقبال نبوة محمد ﷺ بِعِدَّةِ أمور سوف نذكر بعضها في الحلقة القادمة إن شاء الله .