أوصاف المسلمين لسيد المرسلين :
- وصف ( هند بن أبي هالة ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فصلًا لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثًا ليس بالجافي ولا بالمهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم شيئًا ، ولم يكن يذم ذوقًا ولا يمدحه ، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، وإذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلّبها ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام .
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه ، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم من غير طرى عن أحد منهم بشره .
يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويصوبه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر ، غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يفعلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا بقصر عن الحق ، ولا يجاوزه إلى غيره .. الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عندهم أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن إذا انتهى إلى القوم جلس حيث انتهى المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ؛ حتى لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لا يرده إلا بها أو بميسور من القول ، وقد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبًا ، وصاروا عنده في الحق متقاربين ، يتفاضلون عنده بالتقوى ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، يتعاطفون بالتقوى ، يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويرفدون ذا الحاجة ، ويؤنسون الغريب .
كان دائم البشر، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عتاب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يقنط منه قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، والإكثار، وما لا يعنيه ، وترك الناس في ثلاث : لا يذم أحدًا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا .
لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويعجب مما يعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، ويقول : ( إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ ) “.
( انظر : الشفاء للقاضي عياض 1 / 121 – 126 ).
( وانظر أيضا : شمائل الترمذي ).
- عظمة النبي محمد :
( الشيخ محمود شلتوت )
ما أجدر المسلمين أن يتعرفوا عظمة نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم- التي تجلت آثارها في أطوار حياته كلها ، فلم تكن عظمته من جنس العظمات البشرية المألوفة ، فهي ليست من عظمة الملوك الجبارين ، الذين يستعذبون أنين الإنسانية واستبعاد الخلق وإذلالهم ، وليست من عظمة القواد الطاغين الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ولا يرون السعادة إلا في الفتك بالضعفاء ، والتخريب ، والتدمير ، وترويع الآمنين ، وليست من عظمة الأغنياء الموسرين ، الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق ، ويمنعون حق السائل والمحروم ، ثم يسخرون عباد الله في شهواتهم وأهوائهم بشيء من حطام الدنيا الزائل .
إنها عظمة رحمة وعطف ، عظمة هداية وإرشاد ، عظمة تثقيف وتهذيب ، عظمة إصلاح وتعمير ، عظمة سلم وأمان ، عظمة تهيئ للحياة الفاضلة عدتها وتعبد سبلها ، عظمة تساير الدهر ، وتستقر في صفحة الخلود ، ويستمد العالم منها غذاء حياته الروحية والاجتماعية ، عظمة تتمثل في تلك التعاليم التي وحدت بين قلوب متنافرة ، وربطت بين قبائل مبعثرة ، واستلت منها الأحقاد والأضغان ، وكونت منها أمة مهيبة الجانب ، عزيزة المنال ، ذات شخصية ثابتة ، ونظام محكم متين ، استطاعت أن تسوس به شعوب الأرض ، على دعائم قوية من العلم والمعرفة ، والحكمة والعدل .
- شمس الهداية :
( الشيخ محمد مصطفى المراغي )
منذ وجد الإنسان على الأرض وهو مشوق إلى تعرف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص ، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل ، وظهر ضعفه ، وتضاءل غروره . ونبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه شبيه بالوجود .
فقد جد العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه ، ويتلمسون مظاهر أسماء الله -جلت قدرته- في عقله وخلقه وعمله .
ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى الشيء من المعرفة ، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة ، وأمامهم جهاد طويل ، وبعد شاسع ، وطريق لا نهاية له .
والنبوة هبة الله لا تنال بالكسب ؛ لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها والقادر على حملها ، ” الله يعلم حيث يجعل رسالته “.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- أُعد لأن يحمل رسالة أكمل دين ، ولأن يختم به الأنبياء والرسل ، وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم ، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها ؛ فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوة واختيارهم لها ، وهذا التبليغ نتيجة حتمية للنبوة لا مرد لها .
وهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الوحي ، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي ، فقد أصبح مبلغًا عن ربه ، داعيًا إليه ، حاميًا تلك الدعوة وحرية الداعين ، مدافعًا عنهم ، وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ، ومنظم جميع الصلات والروابط فيها ، وبينها وبين غيرها من الأمم ، وقد أقام العدل في ذلك كله ، وألف بين أممم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينهم ، وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر ، وكمال الفطنة ، وسرعة الخاطر ، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رءوسم أمامها إجلالًا وهيبة ، وفارق الدنيا وهو راض عن عمله ، مرضي من الله ومن المسلمين .
- محمد في التاريخ :
يتحدث عملاق الأدب العربي ( عباس محمود العقاد ) عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في التاريخ البشري ، أو عن محمد في العالم وأحداثه الخالدة فكان مما قاله : ” محمد في نفسه عظيم بالغ في العظمة ، وفاقًا لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة “.
فما مكان هذه العظمة في التاريخ ؟ ما مكانها في العالم وأحداثه الباقية على تعاقب العصور ؟
مكانها في التاريخ أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله ، وأن حادثًا واحدًا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور عمله .
فلا فتوح الشرق والغرب ، ولا حركات أوربا في العصور الوسطى ، ولا الحروب الصليبية ، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب ولا كشف القارة الأمريكية ولا مساجلة الصراع بين الأوربيين والآسيويين والإفريقيين ، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات ، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة ، ولا الحرب الحارة التي نشهدها في هذه الأيام ، لا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جمعية كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح .
كان التاريخ شيئًا فأصبح شيئًا آخر ، توسط بينهما وليد مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام إلى هذه الغبراء .. ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء ! ما أقواها بعد ذلك أثرًا في دوافع التاريخ ! ما أضخم المعجزة ! وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال ، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك بسنين حيثما بحث عنها المنجمون والعرافون ! على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح ، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان .
وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال ، فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ ، ويبتعث دوافع الشعوب .
أما غير الجائز فهو أن تنفتح للإنسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان ، وبغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار .
ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالمًا وغلقا تحيط به الظلمات ، فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد أو بامتداد التخوم ، ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة ، فارتفع بعد مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ، ودنا به مرتبة إلى الله .. يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير ، فمن أنكرها فإنما ينكر تقدم الإنسان كثيرًا أو قليلًا في هذه الطريق .
عقد عالم أوربي مقارنة بين محمد وبوذا والمسيح فسأل : ” أليس محمد نبيًا على وجه من الوجوه ؟ ” ثم أجاب قائلًا : ” إنه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء ؛ فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله ، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة ، وإنه لخليق في هذه الفيلة أن يسامي أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بني إسرائيل ؛ لأنه جازف بحياته في سبيل الحق ، وصبر على الإيذاء يومًا بعد يوم عدة سنين ، وقابل النفي والحرمان والضغينة ، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة ، فصابر على الجملة قصارى ما يصبر عليه إنسان دون الموت الذي نجا منه الهجرة ، ودأب مع هذا جميعه على بث رسالته غير قادر على إسكاته وعد ولا وعيد ولا إغراء ، وربما اهتدى إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان ، إلا أن أحدًا آخر غير محمد لم يقم في العالم مثلما أقام من إيمان بالوحدانية دائم مكين ، وما أتيح له ذلك إلا مضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الإيمان ، فإذا سأل سائل : ما الذي دفع بمحمد إلى إقناع غيره حيث رضي الموحدون بعبادة العزلة ؟ .. فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في إيمانه بصدق ما دعا إليه “.
والحقيقة التي يراها المنصف -مسلمًا كان أو غير مسلم- هي هذه : هي أن فتوح محمد من فتوح إيمان ، وأن قوة محمد قوة إيمان ، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة ، ولا تعليل لها أصدق من هذا التعليل ، لقد جاد الإغراء الذي أشار إليه العالم الأوربي وهو داع مهدد في سربه ، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته ، فما حفل بالإغراء وهو بعيد من مقصده ولا حفل به وهو واصل إليه .
جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة وهو في مبدأ أمره فقال له واعدًا ملاطفًا بعد أن أعياهم تخويفه متوعدين : ” يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبًا ونسبًا ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل من بعضها ” ، فقال عليه السلام : ” قل يا أبا الوليد ” ، فقال : ” يا ابن أخي ! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك ، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ” ، فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم ، ثم تركه يعود كما أتى .
ثم أدرك النبي غاية ما سعى إليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب ، ولم يكن النعيم المستطاع أفعل في إغرائه من النعيم الموعود ، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم بع عتبة بن ربيعة ، وكان النبي أزهد فيه من زهده في النعيم الموعود ، فلم كل هذا ؟ لم هذا الجهاد ؟ ولم هذا الغناء ؟ ولم هذا الصبر إن لم يكن في سبيل الإيمان ؟ وأي نبي له من الإيمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ورسالة أكبر من هذه الرسالة ؟ .. وأي إنسان يعرف تعظيم الأنبياء إن لم تظفر نبوة محمد عنده بالتعظيم ؟
التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه ؛ حكمه أنفذ من حكم الشانئين والأصدقاء ، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين ، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين ، لأنه حكم الله وقد وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذبين ، وكان في عمله أعظم الرجال أثرًا في الدنيا ، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان .
وسيطلع في الأفق هلال ويغيب هلال ، وسسيذهب في الليل قمر ويعود قمر ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت لتأريخ ما بين الصدور ، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ولا مواعد الأشغال ولا أدوار الدواوين والحكومات ولا ينتظرونها إلا هداية مع الظلام وسكينة مع الليل ؛ أشبه بهداية العقيدة في غياهب الضمير .
ندعوكم لقراءة : مدرسة النبي محمد ﷺ 1
- العقاد وآداب الرسول الاجتماعية :
يقول العقاد عن آداب الرسول الاجتماعية : وكان في آدابة الاجتماعية قدوة الرجل المهذب في كل مكان .
فلم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه ، وتعود كلما زار أحدًا ألا يقوم حتى يستأذنه ، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في إناء ، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وربما نهض بالليل فيشوص فاه بالسواك ، ولا يزال يستاك ويوصي بالاستياك بعد الطعام والتيقظ من النوم ، وكان يتطيب ويتحرى النظافة ويقول لصحبه : ” اغسلوا يوم الجمعة ولو كأسًا بدينار “.
وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور فيأكلون في جيل بأصابع اليد ويأكلون في الجيل الآخر بالشوكة والسكين ، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض وهي عرضيات يُقاس بها عُرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع ، فلا ضير على الناس أن تختلف عاداتهم باختلاف بيئاتهم من أمة لأمة ومن جيل لجيل .
وإنما الضير فيما يتناول الطبع السليم والذوق الحسن وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان .. فلم يكن أحد يشكو من محضره بإنصاف ، وذلك هو ملاك التهذيب الكامل في أصدق معانيه .
صاحب هذا السمت رسول ..
وصاحب هذه الآداب رسول ..
وخلاصة سمته وآدابه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب ، فالسماحة هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها ، والسماحة هي الصفة التي ترقت في محمد إلى ذروة الكمال .
ومن يكون الرسول إن كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة ؟ الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس ، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعًا يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم ، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى -بل صفته الكبرى- أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه ، وهذه هي السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير ، وصيانة الحرمات للعاجز والقدير .
هذه علامة رسالة لا علامة أصدق منها ولا أجدر منها بالقبول ، لأنها علامة من داخل السريرة ، وليست علامة من خارجها قد تلازم أو تفارق من تعروه .
وليس للنوع البشري مقياس صحيح يقاس به محمد فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل ، يعطيه هذه المرتبة من يدين بالإسلام ومن يدين بغير الإسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل .
فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين.
- عزيمة الزهد والإيمان :
وليس أولى بالحب والتبجيل ممن يطلب خير الناس ويزهد في نعمة العيش وهو بين يديه .
فقد ثبت أن محمدًا لم يستمتع بدنياه ، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعًا حتى مضى لسبيله ، وقالت عائشة -رضي الله عنها- : ” لقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به وأمسك بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع .. وأقول : نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقوتك ” ، فيقول : ” يا عائشة ! ما لي وللدنيا .. إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا “.
وقالت زوجه أم سلمة تصف ما وجدته في بيته ليلة عرسها : ” …. فإذا جرة فيها شيء من شعير ، وإذا رحى وبرمة وقدر وقعب فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة ، وأخذت القعب فأدمته ، فكان ذلك طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطعام أهله ليلة عرسه “.
رآه عمر وقد أثر في جنبه حصير فقال له : ” يا رسول الله ! قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير ، وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله ” ، فاستوى جالسًا وقال : ” أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ! “.
ولقد مات ودرعه مرهونه ، ولا ميراث لأهله مما ترك من عقار وهو قليل .. فما سعى أن يقول قائل في قدر هذا الرجل .. آمن به أو لمن يؤمن ؟
أيقول إنه رسول وإنه كان يعلم أنه رسول فصدع بأمر ربه واحتمل ما احتمل في سبيل طاعته وفي سبيل إصلاح خلقه ؟
تلك إذن منزلة الأنبياء التي تستوجب له مقام أصفياء الله عند من يؤمن بالله .
أم ينكرالنبوات ويقول إنه رجل أراد الخير وهو لا يعلم أنه رسول ولا أن الله مطالبه برسالته إلى خلقه ، ولكنه تجرد لهدايتهم في غير مأرب يناله ولا نعمة ينعم بها لأنه لا يطيق لهم شرًا ولا ينتظر في الدنيا ولا الآخرة جزاء ؟
من قال هذا وغض من قدر رجل يحب الناس ذلك الحب ويغار على هدايتهم تلك الغيرة فهو إنسان ممسوخ الضمير .
فمحمد الرجل في المقام الأول بين الرجال ؛ في المقام الأول بخلقته ، وفي المقام الأول بنيته ، وفي المقام الأول بعمله ، وفي المقام الأول بالقياس إلى المشبهين له في دعوته .. ونرى عن يقين أنه لم يحرم نفسه ذلك الحرمان إلا استزادة لأسباب الإيمان وشحذًا للعزيمة في سبيل ذلك الإيمان ، وإعذارًا إلى الله وإلى الناس فيما تجرد له من إصلاح .. لأن محمدًا لم يكن كارهًا لطيبات الدنيا ، ولا حاضًا لأحد على كرهتها والإعراض عنها .. فإذا قنع بما قنع فإنما فعل ذلك ليرتفع بإيمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره .. كأنه يخشى إذا استوفى حظوظ النعيم الميسرة له أن يحسب تلك الحظوظ غرضًا من الأغراض التي نظر إليها حين نظر إلى هداية الناس .
فليكن الإيمان إذن هو كل غرض وكل عمل وكل جزء .. وتلك راحة ضميره ، ومن وراء راحة ضميره أن يظفر الناس بجهده كله في هدايتهم غير منقوص ولا مظنون ، إذا هدى الناس واستمتع بالعيش خشي أن يحسب المتعة من آماله .
وإذا هدى الناس وكفى كانت الهداية هي جملة الآمال وغاية الآمال .. فلينقص حظه من العيش ليكمل حظه وحظ أمته من إيمانه ، وليتم بذلك حسابه لنفسه ، وحسابه عند الله ، وحسابه بين الناس .. وما حساب أولئك جميعًا ؟
حساب رجل هو وازع نفسه في السر والعلانية ، وهو أحق الناس أن يقيم وازعًا للناس .. رجلٌ ولا كمثله الرجال .
( عن عبقرية محمد ، للعقاد ).
- حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- :
للأستاذ الدكتور / محمد حسين هيكل باشا
لقد كانت حياة محمد حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح ، أي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة الأمانة ، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به ، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات ، فلم يصده عنه أن أغراه قومه ، وهو في الذروة منهم حسبًا ونسبًا ، بالمال وبالملك وبكل المغريات ! بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها ، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعًا ، وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة ، ولولا هذا الاتصال ، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه ، لرأينا الحياة على مر الدهور تنفي مما قال شيئًا ، لكن ألفًا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى ، وبحسبنا على ذلك مثلًا واحدًا نضربه : ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، وانقضت أربعة عشر قرنًا لم يقل أحد خلالها إنه نبي ، أو إنه رسول رب العالمين ، فصدقه الناس ، قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة ، فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة ، ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون ، فينذر كل قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق ، ولا يقول أحدهم إنه أرسل للناس كافة أو أنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، أما محمد فيقولها فتصدق القرون كلامه ، ” مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “.
- القيادة الفذة :
الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس ( أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية )
يقولون : إن القائد الناجح هو الشخص الذي تقابله رعيته بالحب ، كما أن ثقته في الرعية وثقة رعيته فيه كاملة تامة .. وهكذا كان القائد العبقري والنبي الإنسان الأعظم .. ولعل حب صحابته له لا يشبهه حب في التاريخ .. وأما هو وزع الأوسمة على صحابته حبًّا وإجلالًا .. فهذا ( صديق ) وذاك ( فاروق ) وثالث ( أمين الأمة ) ، ورابع ( تستحي منه الملائكة ) ، وخامس ( سيف الله ) ، وسادس ( حواريه ) ، وسابع ( شهيد يمشي على الأرض ) .. وأما ( علي ) -رضي الله عنهم جميعًا- فمولاه وأخوه .. وهكذا .
– ويقول الشيخ المجاهد المعاصر العلامة الكبير / فتح الله كولن ( التركي نزيل أمريكا ) : لقد حفل التاريخ الإنساني بالعديد من القادة العظام ، ولكن لا يوجد أي قائد جمع في نفسه كل الصفات التي اجتمعت في محمد القائد ، والإنسان العبقري ، والنبي الرحيم ، أما القادة الذين جمعوا بعض هذه الصفات فقلة أيضًا .
لنتذكر ” الاسكندر الأكبر ” ، و ” هينبعل ” ، و ” نابليون ” ، و ” هتلر ” ، و ” محمد الفاتح ” ، و ” السلطان سليم الأول ” ، و ” السلطان بايزيد ” ( الملقب بالصاعقة ) ، و ” جلال الدين خوارزم شاه ” ، و ” صلاح الدين الأيوبي ” ، و ” طارق بن زياد ” ، و ” الشيخ شامل ” الذي حارب الروس أربعين عامًا .. لا شك أن هؤلاء كانوا قادة عظامًا ، غير أننا إذا قمنا بتقييمهم من زاوية الصفات التي تحدثنا فيها عن النبي الأعظم لوجدنا أنه لا يمكن مقارنتهم أبدًا بقائد القادة محمد -صلى الله عليه وسلم- .
- الرسول القائد : نسيج وحده في العظمة :
أجل ، هناك شخص واحد فقط في العالم كله ، استطاع أن يجمع جميع صفات القيادة الناجحة ، دون أي نقص ، بل في أعلى الذرى وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأنه كان رسول الله ، وكان تحت رعاية الله وتأييده وتوفيقه في جميع الأعمال التي قام بها طوال حياته .. فما أرسله الله إلا رحمة .. وبرحمة من الله لأن قلبه لكل من حوله ، وكان حريصًا عليهم .. وبالمؤمنين رءوف رحيم .. يذب الناس عن النار حتى لا يتساقطون عليها تساقط الفراش .. ويسأل الله لأعدائه الهداية ، وهم لا يحيطون به باذلين جهدهم لقتله ، قائلًا : ” اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ” ، ثم يرفض عرضًا ملائكيًا بالانتقام الجماعي منهم ، قائلًا : ” لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده ويعبده “.
فعلى محمد النبي الإنسان -في سلمه وحربه- أفضل الصلوات ، وأزكى التحيات المباركات .
- التخطيط السليم :
يقول الدكتور خيري حافظ الأغا ، في كتابه ” التخطيط في حياة الرسول ” : كان صلى الله عليه وسلم يعتمد على التخطيط السليم والدراسة المتأنية قبل الإقدام على اتخاذ أي فعل مستقبلي به لدعوة الناس ، أو في دفاعه عن نفسه ، أو عن أصحابه ، وعن دعوته .
هناك تخطيط دعوي ، وتخطيط قيادي ، وتخطيط لبناء المجتمع الإسلامي الأول من جميع النواحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ، وكذلك التخطيط في مجال الإبداع ولابتكار .
وكان -صلى الله عليه وسلم- ينطلق من رؤية واضحة تدرك متطلبات كل مرحلة ، وهو الأمر الذي يتطلب تخطيطًا في جميع المجالات.