لا للخصام :
كل أمرٍ محمود حثَّنا عليه رسولنا الحبيب ؛ ولم لا وهو نبينا القريب ، يرجو لنا الخير الخصيب .
ويحذرنا من كل أمرٍ سيئٍ مريب ، ترفضه الفطرة السليمة للإنسان اللبيب .
الخصام : لا يزيد عن ثلاثة أيام ، كما أوصانا رسولنا عليه الصلاة وأزكى السلام ، فهو معلمنا الأول على الدوام .
قال المعلم صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِم “. (رواه البخاري)
لقدْ حثَّ الإسلامُ الحنيف ، من خلال القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، على الأخلاق الحَسَنة في مُعاملة النَّاس ، فرغَّب في حُسْن مُعاشَرتِهِم واللِّينِ معهم .
وفي هذا الحَديث النبوي الشريف تَحذيرٌ شديدٌ لكل من يتصف باللَّدَد في الخُصومة ، وأنَّه أبغَضُ الرِّجالِ إلى اللهِ تعالَى .
والألدُّ الخَصِمُ هو المُولع بِالخُصومة -وهي النِّزاع والمُجادَلة- الماهر فيها ، والدَّائم فيها كذلِك .
وإنما كان مثل هذا الرَّجل هو أبغَض الرِّجال إلى اللهِ تعالَى ؛ أي : يَكرَهُه اللهُ عز وجل كراهية شَديدة .
وبُغض اللهِ عز وجل للإنسان يترتب عليه الإثم والعُقوبة ؛ لأنَّه يُجادل عَن الباطل ، وذلك يَحمل على ضَياع الحق ، والمطل بالحقوق وظُلم أصحابِها ، ونُصرة الباطل .
قال تعالَى :
” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ “. (البقرة : 204)
والحديث تَحذير أيضًا لمَن يُخاصم بحقٍّ لكنَّه لا يَقتصِر على قدر الخطَأ ، بل يُظهر الزِّيادة ويُبالِغ في الخُصومة ، أو يَمزُجُ بطَلب حقِّه كَلماتٍ مُؤذِية ، أو يُجادل بغير عِلم .
– أحاديث صحيحة عن الخصام :
- « لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ ، يَلْتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا ، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ ».
وفي روايةٍ : إلَّا قَوْلَهُ فيُعْرِضُ هذا ، ويُعْرِضُ هذا فإنَّهُمْ جَمِيعًا قالُوا في حَديثِهِمْ ، غيرَ مالِكٍ فَيَصُدُّ هذا ويَصُدُّ هذا .
( رواه مسلم ).
- « أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَن كَانَتْ فيه خَلَّةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَلَّةٌ مِن نِفَاقٍ حتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ ».
غَيْرَ أنَّ في حَديثِ سُفْيَانَ : وإنْ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ .
( رواه مسلم ).
- سَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ : « إنَّما أنَا بَشَرٌ ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ أقْضِي له بذلكَ ، وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا ». (رواه البخاري)
- « إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ ».
( رواه مسلم ).
- « ينزل اللهُ -عزَّ وجلَّ- ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ إلى سماءِ الدُّنيا ، فيغفرُ لكلِّ شيءٍ إلَّا لإنسانٍ في قلبِه شحناءُ ، أو مشركٌ باللهِ».
( رواه ابن خزيمة ).
- « تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الإثْنَيْنِ ، ويَومَ الخَمِيسِ ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا ، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ ، فيُقالُ : أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا ، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا ، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا ».
وقالَ قُتَيْبَةُ : إلَّا المُهْتَجِرَيْنِ .
( رواه مسلم ).
– مرة أخرى :
نردد حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم مرة أخرى ؛ لئلا نكون من هذا الصنف الذي يبغضه الملك جلَّ في علاه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ الْخَصِم “.
ومعنى الحديث أن الله تعالى لا يحب العبد الذي يكثر من المجادلة التي تقوم عليها خصومات ومنازعات .
فنجد معنى الألد الذي يتمادى في الخصام ويراوغ ويمتنع عن الاعتراف بالحق .
أما الخَصِم فهو الشخص الذي يستند على الباطل لإثبات جداله .
فقد يجادل بالباطل ويأتي بأدلة كاذبة ويتطاول على حقوق الناس ، ويحاول الاستيلاء عليها كراهيةً ، فهو يقوم بالمناظرة لأهداف خبيثة.
– كلام مفيد وللسلف رصيد :
لما كان هذا هو شأن الجدال والخصام ؛ تجنب السلف الصالح ذلك ، وحذَّروا منه ، وورد عنهم آثار كثيرة فيه .
* قال ابن عباس رضي الله عنهما : { كفى بك ظلمًا ألا تزال مخاصمًا ، وكفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا }.
* وقال ابن عباس لمعاوية رضي الله عنهم : هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي ؟
قال : وما تصنع بذلك ؟
{ أَشْغَبُ بك وتشغب بي ؛ فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ، ويبقى في قلبي ما يضرك }.
* وقال ابن أبي الزناد : { ما أقام الجدلُ شيئًا إلا كسره جدلٌ مثله }.
* وقال الأوزاعي : { إذا أراد الله بقومٍ شَرًّا ألزمهم الجدل ، ومنعهم العمل }.
* وقال الأصمعي : { سمعت أعرابيًّا يقول : من لاحى الرجال وماراهم ؛ قلَّتْ كرامته ، ومن أكثر من شيء عُرِف به }.
* أخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن يسار -رحمه الله- أنه قال : { إياكم والمراءَ ؛ فإنه ساعةُ جهل العالم ، وبها يبتغي الشيطان زلته}.
* وأخرج أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال : { من جعل دينه غَرَضًا للخصومات ؛ أكثر التنقل }.
* وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم : { المراء رائد الغضب ، فأخزى الله عقلًا يأتيك بالغضب }.
* وقال محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم : { الخصومة تمحق الدين ، وتنبت الشحناء في صدور الرجال }.
* وقيل لعبدالله بن حسن بن حسين : ما تقول في المراء ؟
قال : { يفسد الصداقة القديمة ، ويحل العقدة الوثيقة .. وأقل ما فيه أن يكون دريئة للمغالبة ، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة }.
* وقال جعفر بن محمد رحمه الله : { إياكم وهذه الخصومات ؛ فإنها تحبط الأعمال }.
* وقيل للحكم بن عتيبة الكوفي رحمه الله : ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء ؟
قال : { الخصومات }.
* وما أجمل قول الشافعي -رحمه الله- حين قال :
قالوا سَكَتَّ وقد خُوصمتَ قلتُ لهم … إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ
والصمت عن جاهل أو أحمق شرفٌ … وفيه أيضًا لصون العِرض إصلاحُ
أما ترى الأُسْدَ تُخشى وهي صامتةٌ … والكلب يُخشى لعمري وهو نبَّاحُ
ومن هنا فإنه من الواجب على المسلمين عدم الانشغال بالجدال والأمور التي لا مصلحة فيها ؛ فالنفوس مجبولة على حب الحديث خاصة عندما يكون ظاهره أنه في الدين ، وأنه لله وفي الله ، وهو في الحقيقة غير ذلك .
ونهانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عن التباغض ، والتحاسد ، والتدابر ، وعدم الهجران فوق ثلاث .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا ، وكونوا عباد الله إخوانًا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ”. (متفق عليه)
وهذا خاص في الخصومة لأمر من الدنيا ، وقد وَقَّتَهُ الشرع بثلاثة أيام .
أما إذا كان الهجر لأجل الفسق أو الابتداع فيجوز أكثر من ثلاثة أيام ولو طالت المدة إذا اقتضت المصلحة ذلك .
دينٌ عظيم ، ونبيٌّ كريم -بأبي هو وأمي وروحي- صلى الله عليه وسلم .