سفينة نوح

سفينة نوح :

هذي -واللهِ- السفينة ، كانت في أيدٍ أمينة ، صورتها في وجداننا منبثة ، وفي أعماقنا مازالت مبينة .

هي لؤلؤة عندنا ، أجمل من أية مدينة .

كانت في الفلك بهاءً ، ووسط المياه كانت زينة .

كانت للمؤمنين أمنًا وأمانًا وسكينة .

وكانت للكافرين ضربة مهينة ؛ فقد كانت نهايتهم مؤلمةً حزينة .

دعا نوح على قومه لعدم استجابتهم له في عبادة الله وحده ، وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عامًا !!

لم يؤمن معه إلا قليل ، قيل إنهم كانوا ثمانين نفسًا ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم .

اشتكى نوحٌ إلى ربه قائلًا : رب إني دعوت قومي إلى الإيمان بك وطاعتك ليلًا ونهارا ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا .

وإني كلما دعوتهم إلى الإيمان بك ، ليكون سببًا في غفرانك ذنوبهم ، وضعوا أصابعهم في آذانهم ؛ كي لا يسمعوا دعوة الحق ، وتغطوا بثيابهم كي لا يروني ، وأقاموا على كفرهم ، واستكبروا عن قبول الإيمان استكبارًا شديدًا ، ثم إني دعوتهم إلى الإيمان ظاهرًا علنًا في غير خفاء .

ثم إني أعلنت لهم الدعوة بصوت مرتفع في حال ، وأسررت بها بصوت خفي في حال أخرى .

ولا مجيب ، إلا من رحم الله وعصم .

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى :
{ يخبر الله تبارك وتعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلام ، أنه اشتكى إلى ربه ، عز وجل ، ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما بيَّن لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم ، فقال : ( رب إني دعوت قومي ليلًا ونهارا ) أي : لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار ، امتثالًا لأمرك وابتغاء لطاعتك }.
( تفسير ابن كثير ).

ذكرها الله ﷻ في سورة نوح :
” قَالَ نُوحٞ رَّبِّ إِنَّهُمۡ عَصَوۡنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا * وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا كُبَّارٗا * وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا * وَقَدۡ أَضَلُّواْ كَثِيرٗاۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّلِمِينَ إِلَّا ضَلَٰلٗا ”. (نوح : 21-24)

لم يملك نوح عليه السلام إلا الدعاء على قومه ؛ فقد آذوه وكذبوه بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ؛
قال الله تعالى مخبرًا عنه أنه قال :
” رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا “. (نوح : 26)

وقال سبحانه : ” فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ “. (القمر : 10)
عند ذلك أوحى الله تعالى إليه : ” أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ ” الآية .

قال تعالى :
” وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ “. (هود : 36)

حكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يُغشَى عليه ، فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونًا لا يقبلون منه شيئًا ، فشكا إلى الله تعالى فقال :
” رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا ” إلى أن قال : ” رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا “.

أمر الملك جل في علاه ، نوحًا عبده ومصطفاه ، أن يصنع السفينة بأعين ووحي ربه ومولاه ؛ قال الله ﷻ :
” وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ “. (هود : 37)

يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في [ الوسيط ] :
{ وقوله : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ….
معطوف على قوله : فَلا تَبْتَئِسْ ….
والفلك : ما عظم من السفن ، ويستعمل هذا اللفظ للواحد والجمع ، والمراد به هنا سفينة واحدة عظيمة قام بصنعها نوح عليه السلام .
والباء في قوله بِأَعْيُنِنا للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير اصنع .
أي : واصنع الفلك يا نوح ، حالة كونك بمرأى منا ، وتحت رعايتنا وتوجيهنا وإرشادنا عن طريق وحينا .
وقوله -سبحانه- : ” وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ” نهي له عن المراجعة بشأنهم .
أي : ولا تخاطبني يا نوح في شأن هؤلاء الظالمين ، بأن ترجوني في رحمتهم أو في دفع العذاب عنهم ، فقد صدر قضائي بإغراقهم ولا راد لقضائي }.

ندعوكم لقراءة : قميص يوسف

بدأ نوح عليه السلام يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة .

انتظر سنوات ، ثم قطع ما زرعه ، وبدأ نجارته .

كانت سفينة عظيمة الطول والارتفاع والمتانة ، وبدأ نوح يبني السفينة ، ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكًا في صنع السفينة ، والجفاف سائد ، فيسخرون منه قائلين : ليست هناك أنهار قريبة أو بحار !

كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح ؟

هل ستجري على الأرض ؟

أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك ؟

وقالوا : لقد جُنَّ نوح ، وترتفع ضحكات الكافرين وتزداد سخريتهم من نوح عليه السلام .

وكانوا يسخرون منه قائلين : صرت نجارًا بعد أن كنت نبيًا !

يقول الرب العلي عن هذا الموقف الجلي :
” وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ “. (هود : 38)

قال الله ﷻ لنوح عليه السلام حين جاء عذاب الله لقومه الذي وعد الله به نوحًا أن يعذبهم به ، وفار التنور الذي جعل الله فورَانه بالماء آيةَ مجيء عذابه لهلاك قومه ، وأمر الله تعالى نوحًا أن يحمل في السفينة ( من كلٍّ زوجين اثنين ) ؛ أي : ذكر وأنثى من كل صنف .

قال الله عز وجل :
” حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ “. (هود : 40)

قال الله الملك الحق :
” وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ “. ( هود : 41-44)

قال الخطيب الشربيني في السراج المنير :
{ إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين ، وهو : ابنه كنعان ، وأمّه واعلة ، وكانا كافرين ، حكم الله تعالى عليهما بالهلاك ، بخلاف سام ، وحام ، ويافث ، وزوجاتهم ثلاثة ، وزوجته المسلمة . اهـ..

عن ابن أبي نجيحٍ ، عن مجاهدٍ : واستوت على الجوديّ ، قوله : الجوديّ : جبلٌ بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذٍ من الغرق وتطاولت وتواضع هو للّه فلم يغرق وأرست عليه سفينة نوح .

Exit mobile version