سباق الدراهم :
بعض الشعراء يُعَظِّمون المال ، ومن يملك المال ، يقول أحدهم :
فصاحة حسان وخط ابن مقلة … وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم
إذا اجتمعت في المرء والمرءُ مفلس … ونُودِي عليه لا يُباع بدرهم
والبعض الآخر يحث الناس على الصدقة ، فيقول :
قدّم لنفسك خيرًا … وأنت مالِكُ مالَك
من قبل أن تصبح فردًا … ولون حالِكَ حالِك
ولست واللهِ تدري … أي المسالك سالك
إما لجنة عدن … أو في المهالك هالك
هل يمكن لدرهم أو جنيه أو ريال أو أية عملة في العالم أن تسبق مائة ؟! الإجابة : نعم .
وهل تسبق ألفًا ؟! والإجابة : نعم .
هل يسبق ذلك الدرهم أو الجنيه المصري أو غيرهما من العملات مائة ألف ؟!!
والإجابة : نعم ، وألف نعم !!!
ما دليلك على ذلك ؟
الدليل قول المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والذي لا ينطق عن الهوى :
” سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ ” ، قالوا وَكَيفَ ؟ قالَ :
” كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما ، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها “.
( رواه النسائي ، وحسنه الألباني ).
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرشِدُ أُمَّتَه إلى مَعالي الأمورِ مِن الأقوالِ والأفعالِ ، وقد حَثَّ النَّاسَ على التَّصدُّقِ والإنفاقِ عن طِيبِ خاطرٍ ، وأوضَح أنَّ اللهَ يُعْطي على ذلك الأجْرَ والعظيمَ ، وأنَّ الصَّدقةَ تُنْمَّى لِصاحبِها عندَ اللهِ تعالى .
وفي هذا الحديثِ السريف يقولُ النَّبيُّ المُعلِّم صلَّى الله عليه وسلَّم :
” سبَق دِرهمٌ مِئةَ ألفِ دِرهمٍ ” ، أي : نفقةُ دِرهمٍ في سبيلِ اللهِ بالتَّصدُّقِ به عن طيبِ خاطرٍ وإخلاصِ نيَّةٍ ؛ فإنَّ ذلك في الأجرِ والثَّوابِ أفضَلُ مِن نفَقةِ مِئةِ ألفِ دِرْهَمٍ ، ” قالوا : وكيف؟ ” ، قال المعلم : ” كان لِرَجُلٍ دِرْهَمانِ تصَدَّق بأحَدِهما ” ، أي : إنَّه رجلٌ فقيرٌ لا يَملِكُ إلَّا دِرْهَمَين فأنفَق وتَصدَّق بأحَدِهما وهو فقيرٌ محتاجٌ فيكونُ قد أنفَق نِصفَ مالِه ، مع احتياجِه إلى ما أنفقَه ، ” وانطَلَق رجلٌ إلى عُرضِ مالِه ، فأخَذ مِنه مِئةَ ألْفِ دِرْهَمٍ فتصَدَّق بها ” ، أي : إنَّه رجلٌ غنيٌّ ، فأنفَق مِن بعضِ مالِه مِئةَ ألفٍ فقط ، وبقِي أكثرُ مالِه كما هو .
وقد ورَد في رِوايةٍ مُوضِّحةٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِل :
” أيُّ الصَّدقةِ أفضلُ ؟ قال : جُهْدُ المقِلِّ ” ، والجُهدُ الوُسْعُ والطَّاقةُ ، أوالمشقَّةُ والغايةُ ، والمُقِلُّ : الفقيرُ الَّذي معَه شيءٌ قليلٌ مِن المالِ : أي : إنَّ أفضلَ الصَّدقةِ هو الَّذي يتَصدَّقُ به الفقيرُ قليلُ المالِ على قدْرِ طاقتِه ووُسْعِه مع مَشقَّةِ ذلك عليه ، وإنَّما كانتْ صدقةُ المقِلِّ أفضلَ مِن صَدقةِ الغنيِّ ؛ لأنَّ الفقيرَ يتَصدَّقُ بما هو مُحتاجٌ إليه ، بخلافِ الغنيِّ ؛ فإنَّه يتَصدَّقُ بفُضولِ مالِه .
ويُجمَعُ بينَه وبينَ حديثِ :
” خيرُ الصَّدَقةِ ما كان عن ظهرِ غِنًى ” ، أنَّ هذا الحديثَ مَحمولٌ على قَويِّ الإيمانِ الَّذي يَصبِرُ على الفاقةِ ، ويَكتَفي بأقلِّ الكفايةِ ، والحديثُ الثَّاني على ضعيفِ الإيمانِ ، ويُحتَمَلُ أن يكونَ المرادُ بالغِنى غِنى القلبِ الَّذي يَصبِرُ صاحبُه على الجوعِ والشِّدَّةِ ، وهو المرادُ بالمقلِّ ، فيكونُ المعنى : أنَّ تَصدُّقَ الفقيرِ الغنيِّ القلبِ ، ولو كان قليلًا ، أفضلُ مِن تَصدُّقِ الغنيِّ بكثيرٍ مِن مالِه .
وفي الحديثِ : الحَثُّ على الصَّدقةِ بطِيبِ خاطرٍ وإخلاصِ نيَّةٍ .
وفيه : تَفاضُلُ العِباداتِ بحسَبِ أحوالِ العابِدين .
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على المعلم والمعنى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الرائع :
زاد أجر درهم واحد وتقدم ثوابه على أجر وثواب مائة ألف درهم ، مع أنه أقل في العدد بكثير ؛ لكن ميزان الحسنات والسيئات لا يعتمد على العدد فقط ، لذلك قال الصحابة الحاضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما حدّث بهذا الحديث : وكيف يسبق درهم واحد مع قلته مائة ألف درهم مع كثرتها ؟
فبيَّن صلى الله عليه وسلم سبب سبق الدرهم الواحد على هذه الدراهم الكثيرة أنه كان لرجل درهمان فقط ، فتصدق بأحدهما وأبقى الآخر لأهله .
ورجل آخر ذهب إلى جانب ماله ، وفيه إشارة إلى كثرة ماله ، فتصدق منه بمائة ألف درهم ، وإنما كانت صدقة المُقل أفضل من صدقة الغني ؛ لأن الفقير يتصدق بما هو محتاج إليه ، بخلاف الغني ، فإنه يتصدق بفضول ماله .
- معاني الكلمات :
سبق درهم مائة ألف : أي تقدم إنفاق الدرهم نفقة مائة ألف درهم .
عُرض ماله : بعض ماله .
- من فوائد الحديث :
بيان أن الأجر على قدر حال المعطي وليس بالعدد فقط .
الحث على الصدقة .
بيان الموازين الصحيحة في الشريعة .
صدقة المقل أفضل من صدقة الغني ؛ لأن الفقير يتصدق بما هو محتاج إليه ، بخلاف الغني ، فإنه يتصدق بفضول ماله .
ندعوكم لقراءة : الإنفاق في سبيل الله
– إتقان العمل :
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله : كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه ، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان ، أفضل بكثير من الغفلة وعدم الاتقان .
وقال بعض السلف : إن الرجلين ليقومان في الصف ، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض .
ويؤكد ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى فيقول :
العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه ، ولهذا قال الله تعالى : ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ” (الملك : 2) ، وقال : ” إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا “. (الكهف : 7)
فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض ، والموت والحياة ، وزيَّن الأرض بما عليها ، ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا ، لا أكثر عملًا .
ثم قال :
والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة ، والتعظيم والإجلال ، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه ، حتى تكون صورة العملين واحدة ، وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى .
إذن فالسباق سباق قلوب ، سباق مشاعر ، سباق نيات ، فرب عمل صغير عظمته نية ورب عمل كبير صغرته نية .
نعم نحن نريد عملًا كبيرًا وتكبره نيته أكثر وأكثر ، لكن المهم أن تنطلق أعمالنا من نيات ، من دوافع قلبية ، من مشاعر ؛ أي من إيمان.