المداراة

المداراة :

قال ابن منظور في [ لسان العرب ] :
المداراة في اللغة : مصدر دارى ، يقال : داريته مداراة : لاطفته ولاينته ، ومداراة الناس : أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم ؛ لئلا ينفروا عنك .

قال ابن بطال : المدَاراة : خفض الجناح للناس ، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول .

وقال ابن حجر : المراد به الدفع برفق .

وقال المناوي : المدَاراة : الملاينة والملاطفة .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب [ الروح ] :
{ المداراة صفة مدح ، والمداهنة صفة ذم ، والفرق بينهما أنَّ المداري يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحقَّ ، أو يردَّه عن الباطل ، والمداهن يتلطَّف به ؛ ليقره على باطله ، ويتركه على هواه ، فالمداراة لأهل الإيمان ، والمداهنة لأهل النفاق }.

صدق أبو الدرداء رضي الله عنه ، القائل :
” إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وقلوبنا تلعنهم ” ، ونحن كذلك يا سيدي .

فالمداراة مع الكفار تجوز حال أن نخشى على أنفسنا منهم ، ويكون ذلك بالتقية باللسان ، والإنكار بالجنان ، يقول الله تعالى في الآية الثامنة والعشرين من سورة آل عمران : ” إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً “ ؛ أي : تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية .

قال البغوي رحمه الله :
معنى الآية : أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالًا حرامًا ، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين ، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية ، قال الله تعالى : ” إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ ” (النحل : 106) ثم هذا رخصة ، فلو صبر حتى قُتِل فله أجر عظيم .

وأنكر قوم التقية ( اليوم ) ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في ( بدو ) الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم ، وقال يحيى البكاء : قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج : إن الحسن كان يقول لكم التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ؟ فقال سعيد : ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار وارتكاب المنهي عنه ومخالفة المأمور { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }.

يقول الله تبارك وتعالى :
« لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ». ( آل عمران : 28)

قال ابن كثير في التفسير :

نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد على ذلك فقال : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ) أي : من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال : ( يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ) [ النساء : 144 ] وقال تعالى : ( يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ) [ المائدة : 51 ].

وقال تعالى : ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ) إلى أن قال : ( وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ) [ الممتحنة : 1 ] وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب- : ( وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) [ الأنفال : 73 ] .

وقوله : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) أي : إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : ” إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم “.

وقال الثوري : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس : إنما التقية باللسان ، وكذا قال أبو العالية ، وأبو الشعثاء والضحاك ، والربيع بن أنس .

ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ النحل : 106 ].

وقال البخاري : قال الحسن : التقية إلى يوم القيامة .

ثم قال تعالى : ( وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ) أي : يحذركم نقمته ، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه .

ثم قال تعالى : ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي : إليه المرجع والمنقلب ، فيجازي كل عامل بعمله .

وقال الشنقيطي رحمه الله :
{ هذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح ؛ لأنَّ محلَّ ذلك في حالة الاختيار ، وأما عند الخوف والتقية ، فيرخص في موالاتهم ، بقدر المدَاراة التي يكتفي بها شرهم ، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة }.

ندعوكم لقراءة : معلم الصدق

والمدارة ؛ من هدي النبي محمد ﷺ ، وهي ليست من باب الضعف ، ولكنها من باب تأليف القلوب ، وهداية الضال ، وإصلاح النفوس المريضة ، والعمل على عودتها إلى جادة الطريق .

عن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم : ” ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ” ، فلما دخل ألان له الكلام .. فقلت له : يا رسول الله ، قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول .
فقال : ” أي عائشة ، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه أو ودعه الناس ، اتقاء فحشه “.
( رواه البخاري ).

يقول ابن الأزرق ، في [ بدائع السلك في طبائع الملك ] :
{ فليس كل الرعية على نمط واحد ، من حسن الخلق والمعشر ، إنَّما الناس يختلفون ، فيحتاج الإمام للمداراة ، وهذا يكون من الإمام جمعًا للأمة ، ورأفةً بها ، وإرشادًا للضال ، وتعليمًا للجاهل ، لاسيما إن كان هؤلاء من أهل الرياسات والأتباع ، فيداري الإمام مراعاة لمصلحة الأمة كلها }.

نفس الإنسان لها مداراة ؛ فهي أهم مداراة للإنسان نفسه ، فهو يعللها ؛ حتى تنجو ، وينجو هو كذلك .

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه الماتع [ صيد الخاطر ] :
{ ومن فهم هذا الأصل ، علَّل النفس ، وتلطف بها ، ووعدها الجميل ، لتصبر على ما قد حملت ، كما كان بعض السلف يقول لنفسه : والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك .. واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم ، وبذلك ينقطع الطريق }.

قال الله سبحانه وتعالى :
« وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ». (لقمان : 15)

قال الطبراني في كتاب [ العِشْرَة ] :
{ حدثنا أبو عبد الرحمن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد ، حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند [ عن أبي عثمان النهدي ] : أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيّ هذه الآية : ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) الآية ، وقال : كنت رجلًا برًّا بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فتعير بي ، فيُقال : يا قاتل أمه .
فقلت : لا تفعلي يا أمه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء .. فمكثت يومًا وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت ، فمكثت يومًا آخر وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه ، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي .. فأكلت }.

رضي الله عن سعد بن أبي وقاص ، وعن صحابة رسول الله ﷺ .

Exit mobile version