سبحان ربنا الأعلى ، خلق فَسَوَّى ، وقَدَّر فهدى .
سبحانه ، يعلم السر وأخفى .
يقول الله الملك الحق في كتابه العزيز :
” وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى “. (طه : 7)
السر : الكلام الخفي { وَأَخْفَى } من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به .
أو السر : ما خطر على القلب .. { وأخفى } ما لم يخطر ؛ يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته .. المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى .
- يقول الامام الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى :
” وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى “.
يقول تعالى ذكره : وإن تجهر يا محمد بالقول ، أو تخف به ، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ) يقول : فإنه لا يخفى عليه ما استسررته في نفسك ، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك ، ولم تنطق به وأخفى .
ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله ( وأخْفَى ) فقال بعضهم : معناه :
وأخفى من السرّ ، قال : والذي هو أخفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله .
- ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : السرّ : ما عملته أنت وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله . - قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يعلم السر وأخفى ) السر ما أسر ابن آدم في نفسه ، ( وأخفى ) : ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : ” مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ “. (لقمان : 28)
- وقال الضحاك : ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر ما تحدث به نفسك ، وأخفى : ما لم تحدث به نفسك بعد .
- وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ، ولا تعلم ما تسر غدًا ، والله يعلم ما تسر اليوم ، وما تسر غدًا .
- وقال مجاهد : ( وأخفى ) يعني : الوسوسة .
وقال أيضًا : ( وأخفى ) أي : ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه .
- وقال العلامة السعدي في تفسيره :
{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي { وَأَخْفَى } من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به .. أو السر : ما خطر على القلب .. { وأخفى } ما لم يخطر .. يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته ، المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى .
فلما قرر كماله المطلق ، بعموم خلقه ، وعموم أمره ونهيه ، وعموم رحمته ، وسعة عظمته ، وعلوه على عرشه ، وعموم ملكه ، وعموم علمه ، نتج من ذلك ، أنه المستحق للعبادة ، وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة ، وعبادة غيره باطلة .
- وقال الإمام محمد سيد طنطاوي رحمه الله في [ الوسيط ] :
قوله -سبحانه- : ( وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ) بيان لشمول علمه بكل شىء ، بعد بيان شمول قدرته .
والجهر بالقول : رفع الصوت به .. والسر : ما حدث به الإنسان غيره بصورة خفية .. وأخفى أفعل تفضيل وتنكيره للمبالغة فى الخفاء .
والمعنى : وإن تجهر -أيها الرسول- بالقول فى دعائك أو فى مخاطبتك لربك ، فربك -عز وجل- غنى عن ذلك ، فإنه يعلم ما يحدث به الإنسان غيره سرًّا ، ويعلم أيضا ما هو أخفى من ذلك وهو ما يحدث به الإنسان نفسه دون أن يطلع عليه أحد من الخلق .
قال -تعالى- :
” وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير “.
وقال -سبحانه- : ” وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ” ، ومنهم من يرى أن لفظ ( أَخْفَى ) فعل ماض . فيكون المعنى : وإن تجهر بالقول فى ذكر أو دعاء فلا تجهد نفسك .
بذلك فإنه -تعالى- يعلم السر الذي يكون بين اثنين ، ويعلم ما أخفاه -سبحانه- عن عباده من غيوب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما سيفعله الإنسان من أعمال فى المستقبل ، قبل أن يعلم هذا الإنسان أنه سيفعلها .
- قال الجمل : وقوله : ( أَخْفَى ) جوزوا فيه وجهين : أحدهما : أنه أفعل تفضيل .. أى : وأخفى من السر .. والثانى : أنه فعل ماض .. أى : وأخفى الله من عباده غيبه ، كقوله : ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ).
- وقيل : ” السر ” : هو العزيمة .
” وأخفى ” : ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه .
- وقال زيد بن أسلم : ” يعلم السر وأخفى ” : أي يعلم أسرار العباد ، وأخفى سره من عباده ، فلا يعلمه أحد .. ثم وحَّد نفسه .
- ومما قاله ابن عاشور :
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات ؛ لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة .
ولمّا جاء القرآن مُذَكِّرًا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم .
وفي «صحيح البخاري» عن عبدالله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقهُ قلوبِهم فقال أحدهم : أترون أنّ الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جَهَرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إنْ كان يسمع إذا جهرنا ( أي وهو بعيد عنا ) فإنه يسمع إذا أخفينا .. فأنزل الله تعالى : ” وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ “. (فصلت : 22)
وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ، ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرتْ الآية الآنفة الذكر .
وقال تعالى : ” أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ “. (هود : 5)
- أسلوب بليغ :
ما جاء في الآية الكريمة أسلوب قرآني بليغ ، وهو متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة .
وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق .
- والختام مسك :
نختم بهذا الحوار الرائع بين رب العزة جل في عليائه ، وعبده ورسوله المسيح ابن مريم عليهما السلام :
قال الله الملك الحق :
” وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ “. (المائدة : 116)