مالك الملك

ربنا الله مالك الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت .
سبحانه وتعالى يعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، بيده الأمر في الأرض وفي السماء .

ما شئتَ كان وإن لم أشأ … وما شئتُ إن لم تشأ لم يكنْ

خلقت العباد لما قد علمتَ … ففي العلم يجري الفتى والمُسِنْ

فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد … ومنهم قبيحٌ ومنهم حسنْ

على ذا مَنَنْتَ وهذا خذلتَ … وذاك أعنتَ وذا لم تُعِنْ

” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “. (آل عمران : 26)

قال الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر السابق رحمه الله تعالى ، في تفسيره [ الوسيط ] :

قال القرطبي : قال ابن عباس وأنس بن مالك : «لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ».
فأنزل الله هذه الآية .
والأمر بقوله قُلِ للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين .
وكلمة اللَّهُمَّ يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلوا هذه الميم المشددة التي في آخرها عوضًا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين «يا» و «أل» وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه .

والمعنى :
قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل : يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادًا وإعدامًا ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبًا وإثابة ، من غير أن ينازعك في ذلك أى منازع .
فكأن في هذه الجملة الكريمة قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ دعاءين خاشعين : أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله اللَّهُمَّ أى يا الله ، وفي هذا النداء كل معاني العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع .
وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله مالِكَ الْمُلْكِ أى يا مالك الملك ، وفي هذا النداء كل معاني الإحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه .
فقوله مالِكَ منصوب بحرف النداء المحذوف .
كما في قوله قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى يا فاطر السموات والأرض .
ثم فصل -سبحانه- بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال -تعالى- تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ .
أي أنت وحدك الذي تعطي الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك .
وعبر بالإيتاء الذي هو مجرد الإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شيء زائل لا يدوم .
والتعبير عن إزالة الملك بقوله وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ يشعر بأنه -سبحانه- في قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزوع منه الشيء كان متمسكًا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته .
والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك .
قال الفخر الرازي : وقوله تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة .. وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز .
ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى : تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه .
أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه -سبحانه- هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ .
العزة -كما يقول الراغب- حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ، من قولهم : أرض عزاز : أي صلبة ، وتعزز اللحم : اشتد وعز ، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه .
والعزيز الذي يقهر ولا يغلب .
وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال : ذل يذل ذلًا إذا قهر وغلب .. والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه ، لأنه يشعر دائمًا بأنه عبد الله وحده وليس عبدًا لأحد سواه ، قال -تعالى- وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء .
أما الكافرون فهم أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار .

والمعنى : أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذي تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم -سبحانه- الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذاته فقال -تعالى- : بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
أى أنت وحدك الذي تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شيء قدير .
وأل في الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده -سبحانه- وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور بِيَدِكَ لإفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك، وجملة «إنك على كل شيء قدير» تعليلية .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : « كيف قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ فذكر الخير دون الشر قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله -تعالى- من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه ».

ندعوكم لقراءة : عظمة الملك وقدرته

– تحويل النبوة والرسالة :

أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .

وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حوَّل النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء ولا رسولًا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار .

ملك الملوك إذا وهب … لا تسألن عن السبب

الله يرزق من يشاء … فكن على حد الأدب

” مالك الملك ” هو اسم من أسماء الله الحسنى ، ومعناه ذو الملك والملكوت ، له الملكية التامة على جميع الموجودات ، تام القدرة على ملكه يتصرف في ملكه كيف يشاء من الإيجاد والعدم ، والإحياء والإماتة ، والتعذيب والإتابة ، من غير شريك ولا مانع ، فلا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، مالك الدنيا ، ومالك الملك يوم الدين ، بيده ملكوت كل شيء ، وإليه الخلق يرجعون ، بيده مقاليد الأمور كلها ، وكل ما سواه يفنى .

Exit mobile version