ربي سيهدين :
قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :
« وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ». (الصافات : 99)
كلما شَعرتَ بالحيرة والضياع ؛ اجمعْ هموم قلبك وارحلْ بها إلى الله ، فعنده فقط سَتجد النجاة ، فلا تخفْ ولا تحزنْ .
فما تراه صعبًا هو على الله يسير ، وما تراه كبيرًا هو عند الله صغير ، وما تراه مستحيلًا هو على الله هيّن .
فقط عليك أن تقرع بابه .
اللهمَّ حَولكَ الذي لا يغلبهُ غَالب ، ويُسرك الذي يهوّن الصعاب والمصائب ، وعافيتك الدائمة ، ورحماتك القائمة ، ورضاك عنا فهو المبتغى ، فمنك المبتدأ واليك المنتهى .
- الهداية إلى الخير :
قال العلامة السعدي رحمه الله :
الله جل في علاه ، يوصل عباده المؤمنين إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون .
فمن لطفه بعبده المؤمن ، أنه يهديه إلى الخير هداية لا تخطر بباله ، بما ييسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى لملائكته الكرام ، أن يُثبِّتُوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيًا لاتباعه .
ومن لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات الاجتماعية ، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم ، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه ، واقتداء بعضهم ببعض .
ومن لطفه ، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي ، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا ، تقطع عبده عن طاعته ، أو تحمله على الغفلة عنه ، أو على معصية صرفها عنه ، وقدر عليه رزقه ، ولهذا قال هنا : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } الذي له القوة كلها ، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به ، الذي دانت له جميع الأشياء .
سبحان ربي عاليًا على العُلا … فوق العُلا فردٌ صمد
نعود إلى الخليل ، الذي يدعو ربه الجليل : « وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ». (الصافات : 99)
قال الإمام الطبري : وقوله ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول : وقال إبراهيم لما أفْلَجَه الله على قومه ونجاه من كيدهم : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) يقول : إني مُهَاجِرٌ من بلدة قومي إلى الله : أي إلى الأرض المقدَّسة ، ومفارقهم ، فمعتزلهم لعبادة الله .
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) : ذاهب بعمله وقلبه ونيته .
ثم طلب من ربه الولد الصالح ؛ فاستجاب له ربه في الحال ؛ قال الله تعالى حاكيًا عن إبراهيم :
« وقَالَ إنِّي ذَاهبٌ إلى رَبِّي سَيَهدِين * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ». (الصافات : 99-101)
وقوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدًا صالحً ؛ يقول : قال : يا رب هب لي منك ولدًا يكون من الصالحين الذين يطيعونك ، ولا يعصونك ، ويصلحون في الأرض ، ولا يفسدون .
كما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال : ولدًا صالحًا .
وقال : من الصالحين ، ولم يَقُلْ : صالحًا من الصالحين ، اجتزاء بمن ذكر المتروك ، كما قال عز وجل : ” وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ” بمعنى زاهدين من الزاهدين .
قال الإمام ابن كثير : ( رب هب لي من الصالحين ) يعني : أولادًا مطيعين عوضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم .
- التحرير والتنوير :
قال ابن عاشور رحمه الله :
الفاءُ في ” فَبَشَّرْناهُ “ لِلتَّعْقِيبِ ، والبِشارَةُ : الإخْبارُ بِخَيْرٍ وارِدٍ عَنْ قُرْبٍ أوْ عَلى بُعْدٍ ، فَإنْ كانَ اللَّهُ بَشَّرَ إبْراهِيمَ بِأنَّهُ يُولَدُ لَهُ ولَدٌ أوْ يُوجَدُ لَهُ نَسْلٌ عَقِبَ دُعائِهِ ، كَما هو الظّاهِرُ ، وهو صَرِيحٌ في سِفْرِ التَّكْوِينِ في الإصْحاحِ الخامِسِ عَشَرَ ، فَقَدْ أخْبَرَهُ بِأنَّهُ اسْتَجابَ لَهُ وأنَّهُ يَهَبُهُ ولَدًا بَعْدَ زَمانٍ ، فالتَّعْقِيبُ عَلى ظاهِرِهِ ، وإنْ كانَ اللَّهُ بَشَّرَهُ بِغُلامٍ بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ حَمَلَتْ مِنهُ هاجَرُ جارَيْتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، فالتَّعْقِيبُ نِسْبِيٌّ ، أيْ بَشَّرْناهُ حِينَ قَدَّرْنا ذَلِكَ أوَّلَ بِشارَةٍ بِغُلامٍ ، فَصارَ التَّعْقِيبُ آئِلًا إلى المُبادَرَةِ كَما يُقالُ : تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ ، وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ فالغُلامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ هو الوَلَدُ الأوَّلُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ وهو إسْماعِيلُ لا مَحالَةَ .
والحَلِيمُ : المَوْصُوفُ بِالحِلْمِ ، وهو اسْمٌ يَجْمَعُ أصالَةَ الرَّأْيِ ومَكارِمَ الأخْلاقِ والرَّحْمَةَ بِالمَخْلُوقِ .. قِيلَ : ما نَعَتَ اللَّهَ الأنْبِياءُ بِأقَلَّ مِمّا نَعَتَهم بِالحِلْمِ .
وهَذا الغُلامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إبْراهِيمُ هو إسْماعِيلُ ابْنُهُ البِكْرُ ، وهَذا غَيْرُ الغُلامِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ المَلائِكَةُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلى قَوْمِ لُوطٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذاريات : 28] فَذَلِكَ وُصِفَ بِأنَّهُ ” عَلِيمٌ “ ، وهَذا وُصِفَ بِ ” حَلِيمٍ “ .. وأيْضًا ذَلِكَ كانَتِ البِشارَةُ بِهِ بِمَحْضَرِ سارَةَ أُمِّهِ وقَدْ جُعِلَتْ هي المُبَشَّرَةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ فَبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود : 71] ، ﴿ قالَتْ يا ويْلَتى أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بَعْلِي شَيْخًا ﴾. [هود : 72]
فَتِلْكَ بِشارَةُ كَرامَةٍ ، والأوْلى بِشارَةُ اسْتِجابَةِ دُعائِهِ ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ إسْماعِيلُ تَحَقَّقَ أمَلُ إبْراهِيمَ أنْ يَكُونَ لَهُ وارِثٌ مِن صُلْبِهِ .
فالبِشارَةُ بِإسْماعِيلَ لَمّا كانَتْ عَقِبَ دُعاءِ إبْراهِيمَ أنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الصّالِحِينَ عُطِفَتْ هُنا بِفاءِ التَّعْقِيبِ ، وبِشارَتُهُ بِإسْحاقَ ذُكِرَتْ في هَذِهِ السُّورَةِ مَعْطُوفًا بِالواوِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ .
- كل المخاوف تتبدد :
لله در الشاعر الفلسطيني عمر اليافي القائل :
وإذا العناية لاحظتك عيونُها … لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها … نم فالمخاوف كلّهنَّ أمانُ
واصطد بها العنقاء فهي حبائلٌ … واطعن بها الأعداء فهي سنانُ
وافتح كنوزَ الأرض فهي غرائمٌ … واقتد بها الجوزاء فهي عنانُ