الميزان الحق

الميزان الحق :

الميزان ميزانان ؛ ميزان المظاهر ، وميزان القسط الطاهر .

أما ميزان المظاهر فيكون في دنيا الناس ، وفيه يتدخل الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجِنَّة والناس .

أما موازين القسط ، فهي التي تكون يوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة .

يحاسبنا الله العظيم بالذرة ، بل بمثقال الذرة .. قال تبارك وتعالى :
« فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ». (الزلزلة : 7-8)

ويقول الله الملك الحق :
« وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ». (الأنبياء : 47)

يقول ابن كثير رحمه الله تعالى :
وقوله : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) أي : ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جُمِع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه .

ومن العجب العجيب العجاب ، أنك ترى في الدنيا رجلًا عظيم الشأن في نظر الناس ، ولكنه عند الله لا يزن جناح بعوضة ؛ لأنه مفتون بماله ، أو جاهه ، أو سلطانه ، أو قوته ؛ والعكس صحيح .
فالميزان الحق ليس في الدنيا ، ولكنه في الآخرة ، « يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».

أما عن الأول ، فقد ورد عن رَسُول اللَّه ﷺ ، فيما رواه أبوهريرة رضي الله عنه ، قَالَ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إِنَّهُ لَيأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العظِيمُ يَوْمَ الْقِيامةِ لا يزنُ عِنْد اللَّه جنَاحَ بعُوضَةٍ “. (متفقٌ عَلَيه)

والعكس بالعكس ، قد يكون الإنسان عكس الأول تمامًا ، ولكن شأنه عند الله كبير .

عن أبي هريرة رضي الله عنه : أَنَّ امْرأَةً سَوْداءَ كَانَتَ تَقُمُّ المَسْجِد -أَوْ : شَابًّا- فَفقَدَهَا رسولُ اللَّه ﷺ ، فَسَأَلَ عَنْهَا -أَوْ : عنْهُ- فقالوا : مَاتَت .
قَالَ : ” أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي ” ، فَكَأَنَّهُمْ صغَّرُوا أَمْرَهَا -أَوْ : أَمْرهُ- فَقَالَ : ” دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا ” ، فدلُّوهُ ، فَصلَّى عَلَيه ، ثُمَّ قَالَ : ” إِنَّ هَذِهِ الْقُبُور مملُوءَةٌ ظُلْمةً عَلَى أَهْلِهَا ، وإِنَّ اللَّه تعالى يُنَوِّرهَا لَهُمْ بصَلاتِي عَلَيْهِمْ “.
( متفقٌ عَلَيهِ ).

أم مِحْجَن رضي الله عنها ، امرأة سوداء ، لم يرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى ” أم محجن ، أو محجنة ” ، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة المنورة الذين ليس لهم نسب بعتزون به ، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا .
وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى .

قال ابن الأثير : { مِحْجَنَةُ امرأة سوداء ، كانت تَقُمُّ المسجد ، فتوفِّيَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم }.

وقال ابن حجر في كتابه [ الإصابة في تمييز الصحابة ] : { مِحْجَنَةُ : وقيل أم مِحْجَن ، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد ، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية }.

كم في الزوايا من خبايا .

ندعوكم لقراءة : يوم القيامة

لا تحتقر أحدًا ، فكم في الزوايا خبايا ، وكم في الناس بقايا .
ولا تظن مهما أوتيت من العلم والفضل أنك وحيد عصرك وفريد دهرك أو أنك إنسان عقمت أرحام النساء أن تلد مثلك .. لا ، كم في الزوايا خبايا وكم في الناس بقايا .
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ” رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ، ذي طمرين ، لو أقسم على الله لأبره “.
فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو .
رجلٌ يمشي على الأرض بقدميه مثلنا يوم يموت يهتز له عرش الرحمن !
فما هي قيمة هذا الرجل وما قدره لكي يهتز له عرش الرحمن ؟!
فلا تحتقر أحدًا ، ولا تظن أنك أفضل الناس ، بل كلما هضمت حظ نفسك ارتقيت ، فإن من خالف الهوى حصل له ضد الهوى ، كما يقول العلماء : أنت تعلم أن ( هوى ) ؛ أي : نزل ، فإذا خالفت الهوى ارتفعت ، فالإنسان إذا خالف هواه ارتفع .

عن أبي عباس سهل بن سعد الساعدي الخررجي رضي الله عنه ، قال : مر رجل على النبي ﷺ فقال لرجل عنده جالس : ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع .
فسكت رسول الله ﷺ ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله ﷺ : ما رأيك في هذا ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله .
فقال رسول الله ﷺ : ” هذا خير من ملء الأرض مثل هذا “.
( متفق عليه ).

تقوى الملك الجليل عز وجل هي المقياس الحقيقي ، الميزان الذي يُوزَن به الناس ، فإن أكرم الناس عند الرب العلي هم أهل الصلاح والتقوى ؛ مصداقًا لقوله : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ “. (الحجرات : 13)
ولم يقل العليم الخبير : أغناكم ، أو أقواكم ، أو أعلاكم ، وهكذا .
التقي هو الأكرم ، والأفضل ، والأشرف ، وكلما قلت تقوى الله سبحانه في قلب العبد كلما قلت منزلته ، وإنما يتفاوت الناس حقيقة بمثل هذه القضايا .

أما في دنيا الناس ، فإن التفاوت يحصل عندهم بالمظاهر والأموال ، فإذا جاءوا إلى إنسان وعنده قصر كبير ، أو منصب رفيع ، أوغير ذلك ، عظم في أعينهم ، وتأدبوا معه في الكلام ، وفي حركاتهم ، وينادونه بكنيته ، وما أشبه ذلك .

بينما الفقير ، فلا يلتفت إليه أحد ، وينظرون إليه بقوة ، وبشزر ، وهذا ينهره ، وهذا يكهره ، وهذا يذمه ، وهذا يشتمه ، وإذا جاء إليهم تأففوا وتأذوا من مقابلته ، ومن النظر إليه ، ومن جلوسهم معه ، يستنكفون من ذلك .

ينظر الله جل في علاه إلى قلوب عباده ، ولا ينظر إلى أجسام العباد ؛ هل هي كبيرة أو صغيرة ، قوية أو ضعيفة ، صحيحة أو سقيمة .
وكذلك لاينظر إلى الأموال ، مصداقًا لقول الصادق في جميع الأحوال ، صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ “. (رواه مسلم)

فمَنْ كان لله أتقى كان مِن الله أقرب وكان عند الله أكرم .

فالمؤمن الفَطِن الكَيِّس ؛ لا يفخر بِماله ولا بجماله ولا بحسبه ولا بِبدنه ولا بِأولاده ، ولا بشيءٍ مِن هذه الدُّنيا أبدًا ، إنَّما إذا وفَّقه اللهُد لِلتَّقوى ؛ فهذا مِن فضل الله عليه ؛ فَليحمد اللهَ عليه ، وإنْ خُذِلَ فلا يَلومَنَّ إلَّا نفْسَه .

Exit mobile version