المراقبة :
يقول الله الملك الحق : ” وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ “. (الحديد : 4)
سبحانه ، لا يخفى عليه شيء في أرضه ولا في سمائه ، قال الملك جل جلاله : ” إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ “. (آل عمران : 5)
وهو سبحانه وتعالى ” يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ “. (غافر : 19)
فيا عبدالله !
اعبد الله ، كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
يحفظك ربك ويرعاك .
- المُراقَبَة لغةً :
حِراسَة الشَّيْءِ ومُلاحَظَتُهُ ، وتأْتي بِمعنى الحِفْظِ. وتُطْلَقُ المُراقَبَةُ على الخَوْفِ والخَشْيَةِ. وأَصْلُها : الاِنْتِظارُ والتَّرَصُّدُ .
- المراقبة اصطلاحًا :
اسْتِدامَةُ عِلْمِ العَبْدِ بِاطِّلاعِ الرَّبِّ عليه في جَمِيعِ أَحْوالِهِ مع الخَوْفِ مِن عِقابِهِ .
المُراقَبَةُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ ، وهي مَعْرِفَةُ العَبْدِ أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليه ، ناظِرٌ إِلَيْهِ يَرَى جَمِيعَ أَعْمالِهِ ، ويَعْلَم كُلَّ ما يَخْطُرُ على بالِهِ ، مع مُلازَمَةِ هذا العِلْمِ لِلْقَلْبِ بِحيث يَغْلِبُ عليه ، ولا يَغْفُلُ عنه .. وهذه المَنْزِلَةُ تُوجِبُ تَعْظِيمَ اللهِ تعالى وإِجْلالَهُ وتَرْكَ المَعاصِي ، والجِدَّ في الطَّاعاتِ.
وبعد ؛ فإنّ الحديث النبويّ الشريف وحيٌ من وحي الله ، يخرج من مشكاة الحقّ والهدى : ” وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ “. (النجم : 3-4)
ولقد أُوتي المعلم صلى الله عليه وسلم الحكمة وفصل الخطاب ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة ، وشُيِّد بالتأييد ، ويُسِّر بالتوفيق ، وخُصّ بجوامع الكلم ، فكان كلامه القول الفصل في كل أمر أو نهي ، فلا يُحاط بدقائق قوله ومعانيه ، ولا يبلغ الفصحاء والبلغاء ، وأهل العقول والحجا أغوار ما فيه ، فهو لا يزال يَهَبُ الأيام من معين الحقّ فيضًا بعد فيض ، ليكون هداية الخلق إلى الحقّ ، وحجّة الله على الخلق ، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها .
– ابتلاء :
ابتلى الله تعالى ثلاثة نفر من بني إسرائيل ، فأرسل إليهم مَلَكًا بالتفاصيل .
نجح أحدهم بامتياز ، فقد حقق الإنجاز ، وللحق والخير قد انحاز ؛ فنجا وفاز .
والآخران كذبا فرسبا في الاختبار ، وأغضبا الملك العزيز الجبار ؛ فأصبحا من أصحاب النار .
روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول :
« إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَبْرَصَ ، وَأَقْرَعَ ، وَأَعْمَى ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ، فَأَتَى الْأَبْرَصَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : لَوْنٌ حَسَنٌ ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ، قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْإِبِلُ -أَوْ قَالَ : الْبَقَرُ ، شَكَّ إِسْحَاقُ- إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ ، أَوِ الْأَقْرَعَ ، قَالَ أَحَدُهُمَا : الْإِبِلُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : الْبَقَرُ- قَالَ : فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَالَ : بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ : فَأَتَى الْأَقْرَعَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذَرَنِي النَّاسُ ، قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْبَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا ، قَالَ : بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ : فَأَتَى الْأَعْمَى ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ ، قَالَ : فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ ، قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا .. فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا .. قَالَ : فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ ، قَالَ : ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ، ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ ، وَالْمَالَ ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي ، فَقَالَ : الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ ، فَقَالَ لَهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ ؟ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا ، فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ ، قَالَ : وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .. قَالَ : وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ، ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَخُذْ مَا شِئْتَ ، وَدَعْ مَا شِئْتَ ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ ، فَقَالَ : أَمْسِكْ مَالَكَ ، إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ ».
ولفظ مسلم : « فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ » وهو رواية عند البخاري .
– احفظ الله يحفظك :
عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ، فقال : « يا غلام ، إني أعلمك كلماتٍ : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألتَ فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك ، رُفعت الأقلام ، وجفَّت الصحف ».
( رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ).
وفي رواية غير الترمذي [ رواية الإمام أحمد ] :
« احفظ الله تجده أمامك ، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يُسرًا ».
- منزلة الحديث :
قال الإمام النووي رحمه الله : هذا حديث عظيم الموقع .
وقال ابن رجب رحمه الله : وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة ، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها ، حتى قال بعض العلماء -وهو ابن الجوزي- : تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم لمعناه .
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله : هذا الحديث باعتبار طريقته حديث عظيم الموقع ، وأصل كبير في رعاية حقوق الله ، والتفويض لأمره ، والتوكل عليه .