اللف والنشر :
قال الله تبارك وتعالى :
” الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ “. (الرحمن : 1-4)
﴿ الرَّحْمَنُ ﴾ ( الذي وَسِعَت رحمته الدنيا والآخرة ) ﴿ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ﴾ أي علَّمَ مَن شاءَ مِن عباده القرآن ( بتيسير تلاوته وحفظه وفَهْم مَعانيه ) ، ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾ ليَعبده وحده ولا يُشرك به ، ﴿ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ أي علَّمه التعبير عمَّا في نفسه -تمييزًا له عن غيره- ليَشكر نعمه ويَنقاد لأمره .
اللَّف والنَّشْر : وهو فى لسان علماء البيان عبارة عن ذكر الشيئين على جهة الاجتماع مطلقين عن التقييد ثم يوفّى بما يليق بكل واحد منهما اتكالًا على أن السامع لوضوح الحال يرد إلى كل واحد منهما ما يليق به ، وهو فى الحقيقة جمع ثم تفريق ، واشتقاقهما من قولهم : لف الثوب إذا جمعه ، ونشر الثياب إذا فرقها .
ومنه قوله تعالى : ” وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ” (الشورى : 28) ؛ أي يفرقها فى عباده على قدر ما يعلمه من الصلاح ، ومثاله من التنزيل قوله تعالى : ” وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ” (القصص : 73) فجمع بين الليل والنهار بواو العطف ، ثم بعد ذلك أضاف إلى كل واحد منهما ما يليق به ، فأضاف السكون إلى الليل ، لأن حركات الخلق تسكن ليلًا لأجل النوم ، ثم قال بعد ذلك وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أضافه إلى النهار ، لأن ابتغاء الأرزاق إنما يكون نهارًا بالتصرف والاضطراب ، واكتفى فى الإضافة بما يعلم من ظاهر الحال ، وهو أن السكون مضاف ، إلى الليل ، لما فيه من الاستراحة بترك التصرفات ، وأن الابتغاء مضاف إلى النهار لما يظهر فيه من الحركة ، ولم يقل جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، والنهار لتبتغوا من فضله ، إيثارًا لما يظهر فى اللف بعده النشر ، من البلاغة وحسن التأليف .
﴿ الطراز لأسرار البلاغة ليحيى بن حمزة 212/2 ﴾.
وهذا لغوي آخر يقول :
اللَّفُّ والنَّشرُ ويُسمى أيضًا بـ ( الطي والنشر ) وهو من الصور المعنوية التي تدرس في علم البديع .
– تعريفه :
وهو استعمال معان متعددة عائدة عليها معان أخرى متعددة من دون أن يعين المعنى بما يعود عليه .
بعبارة اخرى : هو أن يذكر أمورًا متعددة ، ثم يذكر ما لكل واحد منها من الصفات المسوق لها الكلام ، من غير تعيين ، اعتمادًا على ذهن السامع في إرجاع كل صفة إلى موصوفه .
فإذا أتى المتكلم بمتعدد ، وبعده جاء بمتعدد آخر يتعلق كل فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين سمي صنيعه هذا ” لفًا ونشرًا “.
كأن نقول : ( طلعت الشمس وبزع القمر نهارًا وليلًا ).
وكما في قول حمدة بنت زياد الأندلسية :
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ——- وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة ——- وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوناهم من مقلتيك وادمعي ——- وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار
حيث استعملت الشاعرة ( المقلتين والأدمع والأنفاس ) عائدة عليها المعاني التالية ( السيف والسيل والنار ) دون أن تربط المعنى بما يعود عليه اعتمادًا على فهم السامع أو القارئ .
ومن الواضح أن السيف يعود إلى المقلتين ، والسيل يعود إلى الأدمع ، والنار تعود إلى الأنفاس لما بينها من التشابه .
– أقسامه :
- الأول : اللف والنشر المرتب :
وهو ما كان عود المعاني على بعضها في أسلوبه مرتبًا ، بعبارة أخرى هو ذكر الأشياء المتعددة ، ثم ذكر ما يتصل بها على سبيل الترتيب ، الأول للأول ، والثاني للثاني ، وهكذا .
كالأمثلة المتقدمة وكما في قوله تعالى : ” وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ” (القصص : 73) ، إذ جمع الليل والنهار بحرف العطف .
وجاء النشر وفق توزيع مرتب ، فعبارة : { لتسكنوا فيه } تتعلق بالليل ، وعبارة : { ولتبتغوا من فضله } ؛ أي : كسب أرزاقكم ، تتعلق بالنهار .
وكقول ابن حيوس :
فعل المدام ولونها ومذاقها … في مقلتيه ووجنتيه وريقه
المدام : الخمر .
فأورد النشر على ترتيب اللف ، إذ فعل المدام في مقلتيه إسكار ، ولونها في وجنتيه حمرة ، ومذاقها في ريقه لذة .
وكما جاء في سورة ( الكهف من الآية 71 إلى الآية 82 ) في قصة موسى والخضر عليهما السلام ، ففي عرض القصة جاء ترتيب عرض أحداثها بدءًا بحادثة خرق السفينة ، فحادثة قتل الغلام ، فحادثة إقامة الجدار .
ولما أبان الخضر تأويل أعماله التي قام بها لموسى عليه السلام بدأ ببيان سبب خرقه السفينة ، فبيان سبب قتله الغلام ، فبيان سبب إقامته الجدار .
- الثاني : اللف والنشر المشوش :
وهو ما كان عود المعاني فيه على بعضها غير مرتب .
وبعبارة اخرى : وهو ذكرالأشياء ثم نذكر ما يتصل بها ، ولكن لا على سبيل الترتيب ، فربما نذكر المتقدم للمتأخر ، والمتأخر للمتقدم ، وهكذا …. وذلك لنكتة بيانية .
كقوله تعالى : ” يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ “. (آل عمران : 106-107)
قال العلامة الآلوسي :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } تفصيل لأحوال الفريقين ، وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر .
وكقول الله عز وجل في سورة الضحى : ” أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فَأَغْنَىٰ ” ، هذه الجمل الثلاث تضمنت أفكارًا ثلاثة مفصلة ، فهي لف مفصل ، وجاء بعدها نشر غير مرتب على وفق ما جاء في هذا اللف :
فجملة : { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } ملائمة للجملة الأولى ومتعلقة بها .
وجملة : { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْ } ملائمة للجملة الثالثة ومتعلقة بها .
وجملة : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ملائمة للجملة الثانية ومتعلقة بها .
سبحان ربي العظيم .. سبحان من هذا كلامه .