العفو عند المقدرة :
يعلمنا الحبيب عليه الصلاة وأزكى السلام ، أن العفو من أخلاق الإسلام ، ومن شيم الكرام ، كما كان يفعل هو وصحبه العظام ، والتابعون والأئمة الأعلام ، ومن تبعهم بإحسان على الدوام .
– عفو النبي صلى الله عليه وسلم :
عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالَتْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ ؟
قالَ : لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلال ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي ، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ ، فَنادانِي فقالَ : إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم ، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قالَ : يا مُحَمَّدُ ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :
« بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا ».
( متفق عليه ).
الأخشبان : الجبلان المحيطان بمكة .
والأخشب : هو الجبل الغليظ .
وقرن الثعالب : ميقات أهل نجد ، ويُقَال له : قرن المنازل ، على يوم وليلة من مكة .
- وعنها قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قَطُّ بيده ، ولا امرأة ولا خادمًا ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نِيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه ، إلا أن يُنتَهك شيء من محارم الله تعالى ، فينتقم لله تعالى .
( أخرجه مسلم ).
– موقفه مع أهل مكة :
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت ، فصلى بين الساريتين ، ثم وضع يديه على عضادتي الباب ، فقال : « لا إله إلا الله وحده ، ماذا تقولون ، وماذا تظنون ؟ ».
قالوا : نقول خيرًا ، ونظن خيرًا : أخ كريم ، وابن أخ ، وقد قدرت ، قال : « فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم : ” لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين ” (يوسف : 92) ».
– موقفه مع عكرمة بن أبي جهل :
عن عروة بن الزبير قال : قال عكرمة بن أبي جهل : لما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا محمد ، إنَّ هذه أخبرتني أنَّك أمَّنتني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنت آمن ».
فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنت عبدالله ورسوله ، وأنت أبرُّ الناس ، وأصدق الناس ، وأوفى الناس ، قال عكرمة : أقول ذلك وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه ، ثم قلت : يا رسول الله ، استغفر لي كلَّ عداوة عاديتكها ، أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اغفر لعكرمة كلَّ عداوة عادانيها ، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصدَّ عن سبيلك » .. قلت : يا رسول الله ، مرني بخير ما تعلم فأُعلِّمُه ، قال : « قل : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله ، وتجاهد في سبيله » ، ثم قال عكرمة : أما والله يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قاتلت قتالًا في الصدِّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله .
ثم اجتهد في القتال حتى قُتل يوم أجنادين شهيدًا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه .
– شهادة عبدالله :
عن عبدِالله بن عمرو بنِ العاص رضي اللهُ عنهما واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم : { … ولا يَدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ ، ولكن يعفو ويَصفَحُ }.
– فوق القمة :
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ القمة ، والدرجة العالية في العفو والصفح ، كما هو شأنه في كلِّ خُلُقٍ من الأخلاق الكريمة ؛ فكان عفوه يشمل الأعداء فضلًا عن الأصدقاء .
وكان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحًا ، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم ، أو تعنيفهم ، أو مقابلتهم بمثل عملهم ؛ امتثالًا لأمر ربه : ” خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ “. (الأعراف : 199)
ثم يعود صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلقَ منهم شيئًا ، بأبي هو وأمي وروحي صلى الله عليه وسلم .
– الصفح الجميل :
وفي تأديب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب ، أنزل الله تعالى عليه في المرحلة المكية قوله : ” فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ “. (الحجر : 85)
ثم أنزل عليه قوله : ” فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ “. (الزخرف : 89)
فكان صلى الله عليه وسلم يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل ، وهو الصفح الذي لا يكون مقرونًا بغضب أو كِبر أو تذمر من المواقف المؤلمة ، وكان كما أدَّبه الله تعالى .
ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل ، ويعرض قائلًا : سلام .
وفي المدينة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على اليهود ، وعفا وصفح ، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم ، ومعاقبة ناقضي العهد منهم .
وهذا غيضٌ من فيض عفو النبي صلى الله عليه وسلم وصفحه .
هو الذي عَلَّمَهُ ربه جَلَّ في عُلاه وأَدَّبَهُ ؛ قال تعالى : ” خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ “. (الأعراف : 199)
وقال سبحانه : ” فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ “. (الحجر : 85)
ندعوكم لقراءة : مدرسة النبي محمد ﷺ 1
– عفو أبي بكر رضي الله عنه :
- عفوه عن مسطح بن أثاثة :
كان مسطح بن أثاثة ممن تكلم في الإفك ، فلما أنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه : -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- واللهِ لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال ؛ فأنزل الله :
” وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “. (النور : 22)
قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال والله لا أنزعها منه أبدًا .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : { أن رجلًا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ، ويتبسم ، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله ؛ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقام فلحقه أبو بكر ، فقال : يا رسول الله ، كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ، قال : « إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك ، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان ؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان ».
ثم قال : « يا أبا بكر ، ثلاث كلُّهنَّ حقٌّ : ما من عبد ظُلم بمظلمة ، فيغضي عنها لله عزَّ وجلَّ إلا أعزَّ الله بها نصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة » ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
– الماضي لا يُذكر :
يا مسعود الماضي لا يُذْكَر ..
مَسعود بن محمد الهمذاني ، كان من خِيار النَّاس ، وكان كثيرًا ما يصفحُ عن النَّاس بقوله : { المَاضي لا يُذكر }.
قيل إنّه رُؤِيَ في المنام ، فقيل له : ما فعل اللّٰه بِك ؟
قال : أوقفني بين يدَيه ..
وقال لي : يا مسعود الماضي لا يُذْكَر ؛ انطلِقوا به إلى الجنَّة .
( تاريخ الإسلام 327/42 ).
– “ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ ” :
يقول العلامة عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى :
” وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ ” يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل .
والعفو أبلغ من الكظم ؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله رحمةً بهم ، وإحسانًا إليهم ، وكراهةً لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى : ” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ “. (الشورى : 40)
– أسعد الناس :
لله در الحكيم القائل :
{ المتسامحون هم أسعد الناس قلوبًا ؛ لأنهم عرفوا قيمة الدنيا ، فلم يبالوا بأخطاء البشر }.
اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو ، فاعفُ عنا .