أكبر الكبائر :
الكبائر كثيرة ، والصغائر أضعافها .
ولا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ؛ كما قال سادتنا من العلماء الكبار .
– حديث المعلم :
عن أبي بكرة نُفَيْع بن الحارث رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» -ثلاثًا- ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال :
« الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ».
وكان متكئًا فجلس ، فقال :
« ألا وقول الزور وشهادة الزور ».
فمازال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .
( متفق عليه ).
عقوق الوالدين : هو كل فعل يتأذى منه الوالدان .
الزور : أصله تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، حتى يُخَيَّل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق .
– شرحٌ مبسط :
قال المعلم صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه :
ألا أنبئكم ؛ أي أخبركم بأكبر الكبائر ، فذكر هذه الثلاث التي هي الإشراك بالله ، وهو اعتداء على مقام الألوهية ، وأخذٌ لحقه سبحانه وتعالى ، وإعطاؤه لمن لا يستحقه من المخلوقين العاجزين .
وعقوق الوالدين ذنب عظيم ؛ لأن العاق قابل الإحسان بالإساءة ، وذلك لأقرب الناس .
وللأسف ، فإن شهادة الزور أصبحت مهنة لعديمي الضمير أمام أبواب المحاكم .
وهي عامة لكل قول مُزوَّر ومكذوب يُراد به انتقاص مَن وقع عليه بأخذ من ماله أو اعتداء على عرضه أو نحو ذلك .
– فوائد :
الحديث النبوي الشريف -بصفة عامة- كله فوائد للمسلم الحق ، الباحث عن الحق بصدق .
وفي هذا الحديث الذي بين أيدينا ..
نأخذ منه :
- طريقة العرض الرائعة : ” ألا أنبئكم ” ؛ بلاغة نبوية اعتاد عليها أهل العلم وأولو الألباب .
- أن أعظم الذنوب الشرك بالله ؛ لأن الله تعالى لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ولقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر الكبائر وأكبرها .
- عِظَم حقوق الوالدين ؛ إذ قرن حقهما بحق الله تبارك وتعالى .
- خطورة شهادة الزور ، وقول الزور وآثارهما السيئة المدمرة على الفرد والمجتمع .
– شرح مستفيض للحديث :
ألا أنبئكم يعني : ألا أخبركم ، والنبأ لا يُقال عادة إلا في الخبر الذي له أهمية وقيمة ، وأما الخبر الذي لا قيمة له فإن العرب لا تسميه نبأً ، فلا تقول العرب : جاءنا نبأ عن فلان ابن فلان ، وإنما يقولون : جاء نبأ الجيش ، وجاء نبأ الأمير والحرب ، وما شابه ذلك .
ففي الحديث ، قال المعلم : ألا أنبئكم ؛ هذا أمر يستدعي الانتباه ، وهو أمر في غاية الأهمية ؛ لأنه يتصل بأكبر الكبائر .
والكبائر ليست على مَرْتَبَة واحدة ، ولهذا قال النبي ﷺ : ” اجتنبوا السبع الموبقات “. (متفق عليه)
لأنها تُوبق صاحبها ؛ أي : تهلكه ، فهذه سبعة ذنوب من أكبر الذنوب ، ومن أعظم الكبائر ، فالكبائر تتفاوت ، وكذلك الصغائر .
– الكبيرة والصغيرة :
قال أهل العلم :
قد تَضْمُر الكبيرة بأمور تحتفّ بها ، كأن يقوم في قلب الإنسان من الخوف من الله تعالى ، والحياء منه ، وما أشبه هذا مما تصغر معه الكبيرة ، وقد تكبر الصغيرة إذا وجد معها من الاستخفاف والاستهتار والفرح بها ، والبجاحة ، فإن هذا يصيرها عظيمة ، وهكذا أيضًا الإصرار على الصغيرة ، فإن الإصرار على الصغائر يصيرها كبائر .
وضابط الكبيرة اختلف فيه أهل العلم اختلافًا كثيرًا ، ومن أحسن ما قيل في ذلك : إنه ما ورد فيه وعيد خاص في الآخرة بالنار ، أو رتب عليه لعن ، أو رتب عليه إقامة حد ، أو جاء وصفه بأنه عظيم ، أو أنه جريمة ، أو أنه كبير ، أو نحو ذلك ، كما قال الله عز وجل:
” وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا “. (الإسراء : 31)
والفرق بين الخِطأ والخَطأ -عند جماعة من أهل العلم- أن الخِطأ هو : الخَطأ المقصود المتعمد ، والخَطأ : ما وقع من المخالفة من غير قصد ولا عمد ، قال الله تعالى : ” إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ” ، فهنا دلَّ على أن ذلك من الكبائر ، وهكذا حينما يقول الله جل في علاه عن شيء بأنه : ” كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا “. (الأحزاب : 53)
وحينما يقول مثلًا : ” إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ” (النساء : 22) ؛ وهو نكاح زوجات الآباء ، وكذلك الزنا ، ” وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ” (الإسراء : 32) ، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يذكرها الله تعالى لبعض الذنوب والجرائم .
هذا كله يجعلها في عداد الكبائر ، وهكذا ما رُتِّب عليه حَدٌّ مثل الردة عن الإسلام ، أو السرقة ، أو الزنا ، أو شرب الخمر ، وما كان في مستواها أو ما هو أعظم منها ، وإن لم يرد في خصوصه عقوبة معينة .
وهناك أشياء أعظم منها ، يعني مثلًا الذي يشرب الخمر يُجلَد ، والذي يُرَوِّج المخدرات ولا يشرب الخمر ؛ هذا أعظم من شارب الخمر .
والذي يَسُبّ الله عز وجل ، والذي يسب الرسول ﷺ ، هذا من أعظم الجرائم ومن أكبر الكبائر .
ندعوكم لقراءة : اعتزال المعصية
– أفعل التفضيل :
يقول العلامة ابن باز رحمه الله تعالى :
وقوله ﷺ هنا : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟
” أكبر ” هذه يسمونها أفعل التفضيل ، تقول : فلان أعلم من فلان ، فهذه تدل على أن اثنين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها ، فلان أعلم من فلان ، فلان أشجع من فلان ، فلان أكرم من فلان ، فحينما يرد في موضع من المواضع أن هذا أكبر الكبائر ، وفي موضع آخر أن هذا أكبر الكبائر ، أو في موضع واحد يَذكر عددًا من القضايا وكلها يقول فيها : إنها أكبر الكبائر ، هل هذا يعني أن الذي بلغ المستوى الأعلى يمكن أن يشترك معه غيره في هذا المستوى ؟
الصحيح : نعم ؛ لأن القاعدة في هذا : أن أفعل التفضيل لا تمنع من التساوي ، وإنما تمنع أن يزيد أحدهم على الآخر ، وهذا جواب مذكور في مثل قوله تبارك وتعالى : ” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا “. (هود : 18)
يعني : لا أحد أظلم ، مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ، ” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ” (الكهف : 57) ، ” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ” (البقرة : 114) ، لا أحد أظلم من هذا ، ولا أحد أظلم من هذا .
إذًا كلهم قد بلغوا في الظلم غايته ، هذا المعنى ، فهنا ” أكبر الكبائر ” ما ذكر واحدة هي الأكبر ، لا ، ذكر مجموعة ، فهذه الأشياء قد بلغت الأعلى ، بلغت الغاية في كبرها وشدتها وشناعتها ، وإن كانت هي في نفسها أيضًا تتفاوت .
الشرك بالله تعالى من أكبر الكبائر ، وهو أعظم مما بعده ؛ لأن الله عز وجل يغفر كل ذنب بمشيئته إلا الشرك فإنه لا يُغفر إلا بالتوبة منه ، ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ “ (النساء : 48) ، فما دون ذلك يدخل فيه عقوق الوالدين ، ويدخل فيه الزنا ، ويدخل فيه شرب الخمر ، وكل هذه الأشياء .
فالإشراك بالله ، فهذا أعظم ذنب ، أن تصرف العبادة في غير من خلق ، الله هو المتفضل المنعم ، ثم بعد ذلك يُصرَف الشكر والعبادة إلى غيره ، هذا من أعظم الإجرام وأشد المنكرات ، وأظلم الظلم ، كما قال الله تعالى : ” إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ”. (لقمان : 13)
– عقوق الوالدين :
العقوق : هو فِعْل ما يتأذى به الوالدان .
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر ؛ كما بيَّن المعلم صلى الله عليه وسلم في الحديث .
وفي البر ، قال الله تعالى : ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” (الإسراء : 23) ، فجعل حقهما بعد حقه عز وجل .
وفي العقوق ذكر عقوقهما بعد الإشراك الذي هو أعظم جُرم يمكن أن يقترفه الإنسان .
وقضية العقوق لا تساهل فيها ، يقع فيها أكثر الخلق ، بل لربما تجد الرجل فيه خير ودين وصلاح ومع ذلك هو عاق ، وأحيانًا لا يشعر أنه عاق .
– قول وشهادة الزور :
شهادة الزور ، قد تخرب الدور ، وتدخل القبور ؛ فاحذروها يا أهل النور .
لقد غَيَّر المعلم وضعه ؛ فقد كان متكئًا فجلس ؛ ليتحدث عن قضية في غاية الأهمية ، فقال : ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ؛ شفقةً عليه ﷺ .
اعتدل الحبيب الحريص علينا ؛ ليبيّن خطر هذا الأمر الذي لربما يتساهل فيه كثير من الناس ، إما رغبةً أو رهبة ؛ يعني حرجًا من فلان فيشهد له زورًا ، أو يقول زورًا ، أو رغبة ؛ ولذلك قد تجد بعض من لا خلاق له يقف عند باب المحكمة ليشهد لمن شاء بجنيهات قليلة ، يبيع دينه بثمن بخس !
هذه شهادة زور ، والزور هو أشد الكذب ، يقال له : زور ، فهذا من أعظم الذنوب ، وقول الزور أوسع من شهادة الزور ، الشهادة معروفة .
- قول الزور :
يشمل قول الباطل في أحد لا يستحقه ، كالقذف للمحصنات ونحو ذلك ، ويشمل أيضًا المقالة التي يذكر فيها أحدًا بما لا يستحق ، فهذا من قول الزور ؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى عن الظهار : ” وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ”. (المجادلة : 2)
عن المظاهرين ، الذي يقول لامرأته : أنتِ عليّ كظهر أمي ، مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ باعتبار أن هذه الجملة الخبرية : أنت عليّ كظهر أمي تتضمن إنشاء حكم ، أنه يحرمها ، فهذا حكم منكر ؛ لأن الله لم يحرم ذلك عليه ، وذلك الخبر قوله : أنت علي كظهر أمي ؛ خبر وهو خبر كاذب ، بل كذبه ظاهر ؛ ولهذا كان من قبيل الزور ، ” وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا “ ؛ سمَّى قولهم في الظهار زورًا .
صَلُّوا عليه ..
يا زارعًا حبَّ النبي بقلبهِ … أسقيتَ زرعكَ بالصلاةِ عليهِ
هذا محمدٌ ما تشوَّق في الورى … أحدٌ كشوقِ المسلمين إليهِ