من غرر ألفاظ ابن الجوزي :
– عقارب المنايا تلسع ، وخدران جسم الآمال يمنع ، وماء الحياة في إناء العمر يرشح .
– يا أمير : اذكر عند القدرة عدل الله فيك ، وعند العقوبة قدرة الله عليك ، ولا تشف غيظك بسقم دينك .
– وقال لصديق : أنت في أوسع العذر من التأخر عني لثقتي بك ، وفي أضيقه من شوقي إليك .
– وقال له رجل : ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس ، قال : لأنك تريد الفرجة ، وإنما ينبغي الليلة أن لا تنام .
– وقام إليه رجل بغيض ، فقال : يا سيدي : نريد كلمة ننقلها عنك ، أيهما أفضل أبو بكر أو علي ؟
فقال : اجلس ، فجلس ، ثم قام ، فأعاد مقالته ، فأقعده ، ثم قام ، فقال : اقعد ، فأنت أفضل من كل أحد .
– وسأله آخر أيام ظهور الشيعة ، فقال : أفضلهما من كانت بنته تحته .. وهذه عبارة محتملة ترضي الفريقين .
– وسأله آخر : أيما أفضل : أسبح أو أستغفر ؟ قال : الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور .
– وقال في حديث ” أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ” ، قال :
إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية ، فلما شارف الركب بلد الإقامة ، قيل : حثوا المطي .
– وقال : من قنع ، طاب عيشه ، ومن طمع ، طال طيشه .
– وقال يومًا في وعظه : يا أمير المؤمنين ، إن تكلمت ، خفت منك ، وإن سكت ، خفت عليك ، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك ، فقول الناصح : اتق الله ، خير من قول القائل : أنتم أهل بيت مغفور لكم .
– قال : يفتخر فرعون مصر بنهر ما أجراه ، ما أجرأه !
– ما اجتمع لامرئ أمله إلا وسعى في تفريطه أجله .
– وقال عن واعظ : احذروا جاهل الأطباء ، فربما سمى سما ، ولم يعرف المسمى .
– وكان في المجلس رجل يحسن كلامه ، ويزهره له ، فسكت يومًا ، فالتفت إليه أبو الفرج ، وقال : هارون لفظك معين لموسى نطقي ، فأرسله معي ردءا .
– وقال يومًا : أهل الكلام يقولون : ما في السماء رب ، ولا في المصحف قرآن ، ولا في القبر نبي ، ثلاث عورات لكم .
– وحضر مجلسه بعض المخالفين ، فأنشد على المنبر :
ما للهوى العذري في ديارنا … أين العذيب من قصور بابل
– وقال -وقد تواجد رجل في المجلس- : واعجبًا ، كلنا في إنشاد الضالة سواء ، فلم وجدت أنت وحدك ؟
قد كتمت الحب حتى شفني … وإذا ما كتم الداء قتل
بين عينيك علالات الكرى … فدع النوم لربات الحجل
– المعصية عقاب المعصية ، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة .
– لا يصفو العيش إلا لمن علق قلبه بالله و ترك ما سواه .
– اعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليس بالأقدام .
– سبحان الملك العظيم الذي من عرفه خافه ، ومن أمن مكره قط ما عرفه .
لقد تأملت أمرًا عظيما أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع ، فإذا زاد الانبساط ولم ترعوِ العقول أخذ أخذ جبار .
– قل لي : من أنت ؟ وما عملك ؟ وإلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي .
بالله عليك أتدري من الرجل ؟
الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلل عطشًا إليه ، نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه.
– ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشًا من العارفين بالله عز وجل ؛ فإن العارف به مستأنس به في خلوته .
فإن عمت نعمة علم من أهداها ، وإن مرًا مذاقه في فيه ، لمعرفته بالمبتلى .
– لا ينال لذة المعاصي إلا سكران بالغفلة .
فأما المؤمن فإنه لا يلتذ ؛ لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم ، وحذر العقوبة .
فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي فيتنغص عيشه في حال التذاذه .
فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات ، وإن كان الطبع في شهوته .
وما هي إلا لحظة ، ثم خذ من غريم ندم ملازم ، وبكاء متواصل ، وأسف على ما كان مع طول الزمان .
– تأملت قوله تعالى : ” فَمنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ” .. قال المفسرون : هداي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابي .. فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن والسنة وعمل بما فيهما ، فقد سلم من الضلال بلا شك ، وارتفع في حقه شقاء الآخرة بلا شك ، إذا مات على ذلك .
وكذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلًا ، ويبين هذا قوله تعالى : ” وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرجًا “.
فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلًا .
– رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلى ما عثر به ، فينظر إليه ، طبعًا موضوعًا في الخلق .
إما ليحذر منه إن جاز عليه مرة أخرى ، أو لينظر -مع احترازه وفهمه- كيف فاته التحرز من مثل هذا .
فأخذت من ذلك إشارة وقلت : يا من عثر مرارًا هلا أبصرت ما الذي أعثرك فاحترزت من مثله ، أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة .
– ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال ، وأن يتعلق بذيل فضله إن عصى وإن أطاع .. وليكن له أنس في خلوته به ، فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش ، كما قال الشاعر :
أمستوحش أنت مما جنيت … فأحسن إذا شئت واستأنس
فإن رأى نفسه مائلًا إلى الدنيا طلبها منه ، أو إلى الآخرة سأله التوفيق للعمل لها .
– من تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا :
” وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ” عرف شؤم الزلل .. ومن تدبر أحوالهم قاس ما بينهم وبين أخيهم من الفروق .. وإن كانت توبتهم قبلت، لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح .
– تُعرض اللذات على المؤمن ، فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم . وكأني أرى الواقع في بعض أشراكها ولسان الحال يقول له قف مكانك ؛ أنت وما اخترت لنفسك .. فغاية أمره الندم والبكاء .
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهونًا بالخدوش .
وكم من شخص زلت قدمه فما ارتفعت بعدها .
– تأملت أمرًا عجيبًا ، وأصلًا ظريفًا ، وهو انهيال الابتلاء على المؤمن ، وعرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها ؛ وخصوصًا ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة. فقلت : سبحان الله ههنا بين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين .. والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام ، فبالله عليكم يا إخواني ، تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون ؟
– اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل :
” وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ ” .. فتارة فقر ، وتارة غنى ، وتارة عز ، وتارة ذل ، وتارة يفرح الموالي ، وتارة يشمت الأعادي .
فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال ، وهو تقوى الله عز وجل ، فإنه إن استغنى زانته ، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر ، وإن عُوفِي تمت النعمة عليه ، وإن ابتلى حملته ، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد ، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه .
– المؤمن لا يبالغ في الذنوب وإنما يقوى الهوى وتتوقد نيران الشهوة فينحدر .
وله مراد لا يعزم المؤمن على مواقعته ، ولا على العود بعد فراغه .. ولا يستقصي في الانتقام إن غضب ، وينوي التوبة قبل الزلل .
– قلوب العارفين يُغار عليها من الأسباب وإن كانت لا تساكنها ؛ لأنها لما انفردت لمعرفتها انفرد لها بتولي أمورها .
فإذا تعرضت بالأسباب مُحِي أثر الأسباب : ” وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيئًا “.
وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام ، حتى قال : ” وأَخَاف أَنْ يأكلَهُ الذِّئْبُ ” ؛ فقالوا : ” فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ “.
فلما جاء أوان الفرج ، خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح ” إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ “.
– على قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق ، وعلى قدر وجمود الذهن يقوى القلق .
– ليس في الوجود شيء أشرف من العلم ، كيف لا وهو الدليل .. فإذا عُدِم وقع الضلال .
– الرضا من جملة ثمرات المعرفة ، فإذا عرفته رضيت بقضائه ، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي .
أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة .
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة ، صارت مرارة الأقدار ، حلاوة كما قال القائل : عذابه فيك عذب … وبعده فيك قرب
– ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ، ولا فيه أفضل من الرضا به .
فأما الصبر : فهو فرض ، وأما الرضا فهو فضل .
– رأيت كثيرًا من الخلق وعالمًا من العلماء ، لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها ، كالروح مثلًا ، فإن الله تعالى سترها بقوله : ” قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ” فلم يقنعوا ، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء ، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه ، وكذلك العقل ، فإنه موجود بلا شك ، كما أن الروح موجودة بلا شك ، كلاهما يُعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته .
فإن قال قائل : فما السر في كتم هذه الأشياء ؟
قلت : لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها ، فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه ؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه ، فهو أجلّ وأعلى .
– قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة !
فتدبرت السبب في ذلك ، فعرفته .
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها ، لسببين ؛ أحدهما : أن المواعظ كالسياط ، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها .. والثاني : أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة ، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا ، وأنصت بحضور قلبه ، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها .
– ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه ، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه ” وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ “.
– كيف تنام العين وهي قريرةٌ … ولم تدر من أيّ المحلين تنزلُ
اللهم أنزلنا خير المنازل يا أرحم الراحمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .