لن يخلقوا ذبابًا :
آلهة لا تخلق ذبابًا ، ولا تقول صوابًا ، ولا تفتح بابًا ، ولا تمنح ثوابًا ، ولا تمنع عقابًا !
كيف تُعبد من دون الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ؟!
وها هو الملك جل في عليائه يتحداهم بفعل الذبابة نفسها إذا سلبت منهم شيئًا ، فإنهم لا يقدرون على استرجاعه !
قوة وعظمة ، أمام ضعف وهوان .
ياله من خذلان ؛ إنه الخسران .
قال الله الملك الحق :
” يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ “. (الحج : 73)
لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذبابة واحدة ما قدروا على ذلك .
- عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
” قال الله عز وجل : ” ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة “. (رواه البخاري)
( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) ؛ أي : هم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة ؛ بل إنهم عاجزون حتى عن مقاومته إذا سلبهم شيئًا ، ثم أرادوا أن يستنقذوه منه لما قدروا على ذلك .
ولأن هذا الذباب من أضعف مخلوقات الله ؛ ولهذا قال الملك جل شأنه : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ).
لا يستطيع هؤلاء الكفار المعاندون ، وهم كُثُر في كل زمان ومكان ، فرادى كانوا أو جماعات أن يخلقوا كائنًا حيًّا وإن كان صغيرًا ضعيفًا مثل الذباب ، بل إنهم أضعف من ذلك وأحقر ، حيث لا يستطيعون تخليص ما يسلبهم الذباب من أشياء .
ويأتي العلم الحديث ويكشف هذه الحقيقة المبهرة ، ويثبت أن الذبابة تمتلك خاصية تحليل الطعام خارج جسمها .
فالذبابة تمد فمها من أسفل رأسها لأخذ الطعام ، مكونة بذلك أنبوبًا لامتصاص الطعام ، وتفرز إنزيمًا ليمكنها من تحليل الطعام وتحويله إلى مادة سائلة لمساعدتها على امتصاصه خلال الأنبوب .
وهذا يعني أنه لو فُرض أن هذا المعاند أخذ الذبابة واستخرج ما بباطنها أو فمها ، فإنه لن يجد ما أخذته على صورته الأولى ، بل هو شيء آخر ومركبات أخرى متحللة .
وبهذا تظل الحقيقة القرآنية ناصعة دالة على إعجاز هذا القرآن ، فما أخذه الذباب لا يمكن لأحد استنقاذه منه على نفس هيئته ، بل متغيرًا متحللًا .
– التحدي بالأمور الصغيرة :
قال الدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ، رحمه الله ، في أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع :
{ في الآيتين 73 ، 74 من سورة الحج ، يكشف الله تعالى عجز الشركاء الذين يزعم المشركون أنهم شركاء الله ، عن أن يخلقوا حيوانًا مهما كان صغيرًا ، وعجزهم أيضًا عما دون ذلك الحيوان بكثير .
ومن الأمثلة على ذلك هذا الذباب الذي يرونه بجهلهم حيوانًا حقيرًا ، ولا يقيمون له وزنًا ظنًّا منهم عدم فائدته ويتأذون منه فيذبونه ، ويقتلونه ، ويحاولون إبادته ، إنهم لن يستطيعوا أن يخلقوا مثله منفردين ولا مجتمعين ( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ).
وفي هذا تحدّ شامل لكل الشركاء ، ومن ورائهم من يعبدونهم من دون الله ، ومن العَلْمَانيين الماديين والداروينيين .
” وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ “.
إن التحدي بالأمور الصغيرة جدًا أدق من التحدي بالأمور الكبيرة جدًا ، فصناعة ساعة متقنة صغيرة الحجم بمقدار حبة القمح ، أشق وأعقد من صناعة ساعة كبيرة جدًا تملأ ميدانًا كبيرًا لمدينة عظيمة .
فالآية شاهد من شواهد الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، وهكذا فقد تحداهم الله تعالى بالخلق ، وضرب لهم مثلًا على ذلك بخلق الذبابة وتحداهم بما هو دون ذلك ، وضرب لهم مثلًا على عجزهم من استنقاذ ما يسلبهم الذباب من شيء ، فكيف يتخذ المشركون شركاء لله وهم عاجزون هذا العجز الذي يتنافى مع صفتي الربوبية والألوهية .
إن هذا الأمر مرفوض بداهة في منطق التفكير السليم والعلم الصحيح ، فإطلاق المثل في هذه الآية يُراد منه ذكر نموذج لنوع من الأنواع ، وهو هنا نوع الخلق ، ونوع استنقاذ الأمور الصغيرة جدًا ، والتحكم بها مما تقدر على التحكم به حشرات صغيرة من خلق الله }. (انتهى)
” مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ “. (الحج : 74)
– تفسير الآية الكريمة :
- تفسير الجلالين :
«يا أيها الناس» أي أهل مكة «ضُرب مثل فاستمعوا له» وهو «إن الذين تدعون» تعبدون «من دون الله» أي غيره وهم الأصنام «لن يخلقوا ذبابًا» اسم جنس ، واحده ذبابة يقع على المذكر والمؤنث «ولو اجتمعوا له» لخلقه «وإن يسلبهم الذباب شيئًا» مما عليهم من الطيب والزعفران الملطخين به «لا يستنقذوه» لا يستردوه «منه» ؛ لعجزهم ، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى ؟!
هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل «ضعف الطالب» العابد «والمطلوب» المعبود .
- تفسير الميسر :
يا أيها الناس ضُرِب مثل فاستمعوا له وتدبروه : إن الأصنام والأنداد التي تعبدونها من دون الله لن تقدر مجتمعة على خَلْق ذبابة واحدة ، فكيف بخلق ما هو أكبر ؟ ولا تقدر أن تستخلص ما يسلبه الذباب منها ، فهل بعد ذلك مِن عَجْز ؟
فهما ضعيفان معًا : ضَعُفَ الطالب الذي هو المعبود من دون الله أن يستنقذ ما أخذه الذباب منه ، وضَعُفَ المطلوب الذي هو الذباب ، فكيف تُتَّخذ هذه الأصنام والأنداد آلهة ، وهي بهذا الهوان ؟!
– مَثَل عام :
- وفي هذا يقول الأستاذ محمد عتوك في موقع إعجاز القرآن والسنة :
هذا مثل ضربه الله تعالى لضعف الناس وعجزهم ، يبيِّن لهم فيه أنه لا يُقَاسُ المخلوق الضعيف العاجز عن كل شيء بالخالق القوي القادر على كل شيء ، ويُجْعَلُ له سبحانه وتعالى نِدًّا ومِثْلًا .
ومناسبته لما قبله أن الله تعالى ، لما بيّن من قبلُ أن المشركين يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ، ولا علم ؛ وذلك قوله تعالى :
” وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ “. (الحج : 71)
ضرب لهم هذا المثل ، يدلُّهم فيه على قُبْح دعائهم للذين من دونه جل وعلا وبطْلانه ، منبِّهًا على سخافة عقول من يدعونهم ، مقرِّرًا ضعف الجميع وعَجْزَهم ، محتجًّا عليهم بالعقل الصحيح ، ومقتضى الفطرة السليمة .
والآية ، وإن كانت نازلة في الأصنام -فقد كان العرب- كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما يطلونها بالزعفران ، ورؤوسها بالعسل ، ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكُوَى ، فيأكله .
وقيل : كانوا يضمخِّونها بالطيب ، فكان الذباب يذهب بذلك ، وكانوا يتألمون ، فجعل ذلك مثلًا -إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات من دون الله عز وجل- .
وقوله تعالى :
﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ نداء عام للناس كلهم ونفير بعيد الصدى ، الغرض منه إخبارهم بضرب هذا المثل : ﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ ، وأمرهم بالاستماع له : ﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ وهو مثل عام يُضرب ، لا حالة خاصة ، ولا مناسبة حاضرة .
وقوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ إلى آخر الآية بيان لهذا المثل ، وتفسير له ؛ ونظيره قوله تعالى : ” إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ “. (الأعراف : 194)
وقيل : المراد بـ﴿ النَّاس ﴾ هنا المشركون الذين عبدوا البشر والحجر من دون الله تعالى ، ويدل عليه قراءة الحسن ويعقوب والسلمي وأبي العالية وهارون ومحبوب عن أبي عمرو : ﴿ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ؛ بياء الغائبين مبنيًّا للفاعل ، فيكون الخطاب خاصًّا بهم .
والظاهر أن الخطاب شامل لجميع الناس ( مؤمنين ومشركين ) ؛ لأنهم هم المأمورون بالاستماع لهذا لمثل .
أما المؤمنون فيزدادون بضرب المثل علمًا وبصيرة ، وأما المشركون فتقوم به عليهم الحجة ؛ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم .
وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
” يا أيها الناس ! إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقيٌّ هَيِّن على الله ” .. ثم تلا : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … ” (الحجرات : 13) حتى قرأ الآية .
– الطالب والمطلوب :
” ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ” وفيها احتمالات :
الأول : إنّ المراد من الطالب والمطلوب هو العابد والمعبود ، فالإنسان ضعيف كما هو واضح ، وقال سبحانه : ” وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ” ، والمطلوب ، أعني : الأصنام مِثله ؛ لأنّه جماد لا يقدر على شيء .
الثاني : ويُحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طُليت به الأصنام ، والمطلوب هي الأصنام التي تريد استنقاذ ما سُلِب منها .
الثالث : المراد من الطالب الآلهة فإنّهم يطلبون خَلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم ، والمطلوب الذباب حيث يُطلب للاستنقاذ منه ، والغاية من التمثيل : بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة .
ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبيّن منشأ إعراضهم عن عبادة الله وانكبابهم على عبادة الآلهة بقوله : ” مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ” أي ما نزّلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به ، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر ، فلو كان هؤلاء عارفين بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا ربّ سواه ، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه ، ولكن لم يقدروا الله بما يليق به ، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم ، مع أنّه سبحانه هوَ الَقَوِيٌّ العَزِيز ، بخلاف الآلهة فإنّهم الضعفاء والأذلاّء .
” مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ “. (سورة الحج : 74)