حوار الأفكار

حوار الأفكار :

الدكتور مصطفى محمود ؛ في الأصل طبيب ، وهو في الوقت نفسه كاتب ومفكر وأديب .
عاش حياته بفكرٍ عجيب ، وبَحَثَ كثيرًا لعله يستجيب ؛ ووجد ضالته في هَدْي الحبيب ﷺ .

ألَّفَ الدكتور مصطفى محمود 89 كتابًا ؛ منها الكتب العلمية ، والدينية ، والفلسفية ، والاجتماعية ، والسياسية ، إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات .

ظهرت الوجودية في ستينيات القرن العشرين بعد تزايد التيار المادي ؛ والوجودية هي المدرسة الفلسفية التي تتخذ من الإنسان موضوعًا لها ، ليس فقط من خلال التفكير وإنما من خلال الفعل والشعور ؛ أي إنها ترتبط بالإنسان كفرد حي. والوجودية تتفق على مبدأ أنه لا يوجد هدف واحد أو حقيقة واحدة يعيش من أجلها الجميع ، وكل فرد في الأرض له الحق والحرية الكاملة في اختيار الحياة التي يرغبها والهدف الذي يسعى إليه ويعيش من أجله ، وليس من حق الغير تحديد خيارات الآخرين .

وترتبط الوجودية بصورة أساسية ببعض الفلاسفة الأوروبيين من القرنين التاسع عشر والعشرين ، الذين تشاركوا في الاعتقاد ببداية هذا التفكير الفلسفي ، رغم اختلافهم في العديد من الآراء الأساسية .

والمصالح تتصالح ؛ كما يقولون !!

لم يكن الدكتور مصطفى محمود بمنأى عن ذلك التيار الخطير الذي أحاطه بقوة ، وأحاط بآخرين من المفكرين وغيرهم ؛ إلى أن ذهب إلى درب اليقين ، مع صحيح الدين ، واتباع هدي سيد الأولين والآخرين .

يقول هو بنفسه عن ذلك :
{ احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب ، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس ، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة ، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت ، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين }.

والثابت أنه في فترة شكه لم يلحد ؛ فهو لم ينفِ وجود الله بشكل مطلق ؛ ولكنه كان عاجزًا عن إدراكه ، كان عاجزًا عن التعرف على التصور الصحيح لله عز وجل .

لاشك أن هذه التجربة صهرته بقوة وصنعت منه مفكرًا دينيًّا خلَّاقًا .

ثلاثون عامًا أنهاها بأروع كتبه وأعمقها ؛ على رأسها : حوار مع صديقي الملحد ، رحلتي من الشك إلى الإيمان ، التوراة ، لغز الموت ، لغز الحياة ، وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة .

كتاب : [ حوار مع صديقي الملحد ] كتاب من تأليفه ؛ والكتاب يصف محاورة فكرية بين الدكتور مصطفى محمود وصديق خيالي ملحد ، يطرح الأسئلة الإلحادية المعروفة ، ويقوم هو بالإجابة العلمية بشكل منطقي على العديد من هذه الأسئلة .

في أحد فصول هذا الكتاب طرح صديقه الملحد سؤالًا خبيثًا وهو يبتسم ابتسامة خبيثة ، قال :

ألا تلاحظ معي أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة ؟!

ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسّحون به وتطوفون حوله .

ورجم الشيطان ، والهرولة بين الصفا والمروة ، وتقبيل الحجر الأسود ، وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات ، وهي بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة !!

وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم ، لا تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء في العلم .

ندعوكم لقراءة : إسلام جيفري لانج

يقول الدكتور مصطفى :

قلت له في هدوء :
{ ألا تلاحظ معي أنت أيضًا أن في قوانين المادة التي درستها أن الأصغر يطوف حول الأكبر .. الالكترون في الذرّة يدور حول النواة ، والقمر حول الأرض ، والأرض حول الشمس ، والشمس حول المجرّة ، والمجرّة حول مجرّة أكبر .. إلى أن نصل إلى الأكبر مطلقًا ؛ وهو الله ﷻ ، ألا نقول : الله أكبر ؟ أي أكبر من كل شيء ، وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف ؛ فلا شيء ثابت في الكون إلا الله ، هو الصّمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله ؛ وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلمته في الفيزياء .

أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزًا وبيتًا لله .
ألا تطوفون أنتم حول رجل محنّط في الكرملين تعظمونه وتقولون إنه أفاد البشرية ، ولو عرفتم لشكسبير قبرًا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام ، ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون إنه يرمز للجندي المجهول ، فلماذا تلوموننا لأننا نلقي حجرًا على نصب رمزي نقول إنه يرمز إلى الشيطان .

ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك ، ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد .
وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا ، الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم ، إلى المروة ؛ وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة والوجود .

من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم ، أليست هذه هي الحركة البندولية لكل المخلوقات ؟!

ألا ترى في مناسك الحج تلخيصًا رمزيًّا عميقًا لكل هذه الأسرار ؟!

أما عن رقم 7 الذي تسخر منه ، دعني أسألك : ما السر في أن درجات السلم الموسيقي 7 .
صول لا سي دو ري مي فا ؟
ثم بعد المقام السابع يأتي جواب الصول من جديد ، فلا نجد 8 وإنما نعود إلى سبع درجات أخرى ، وهلم جرا .

وكذلك درجات الطيف الضوئي 7 ، وكذلك تدور الإلكترونات حول نواة الذرّة في نطاقات 7 ، والجنين لا يكتمل إلا في الشهر 7 ، وإذا وُلد قبل ذلك يموت ، وأيام الأسبوع 7 .
ألا يدل ذلك على شيء ؟!

أم أن كل هذه العلوم هي الأخرى شعوذات طلسمية ؟!

ألا تُقَبِّل خطابًا من حبيبتك ؟
هل أنت وثني ؟

فلماذا تلوموننا إذا قبَّلنا ذلك الحجر الأسود الذي حمله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه وقَبَّلَه ؟

لا وثنية في ذلك بالمرة ؛ لأننا لا نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات .

إن مناسك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب .

أما ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطًا ؛ فهو رمز للخروج من زينة الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق تمامًا كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ، ونخرج من الدنيا في لفة ، وندخل القبر في لفة .

ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية لمقابلة الملك ؟!

ونحن نقول : إنه لا شيء يليق بجلالة الله إلا التجرد وخلع جميع الزينة ؛ لأنه أعظم من جميع الملوك ولأنه لا يصلح في الوقفة أمامه إلا التواضع التام والتجرد ولأن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير والمهراجا والمليونير أمام الله فيه معنى آخر للأخوة رغم تفاوت المراتب والثروات .

والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي ، ومثله صلاة الجمعة ؛ وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع .

هي كلها معانٍ جميلة لمن يفكر ويتأمل ، وهي أبعد ما تكون عن الوثنية .

ولو وقفت معي في ” عرفة ” بين عدة ملايين يقولون : ” الله أكبر ” ، ويتلُون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون : لبيك اللهم لبيك ، ويبكون ويذوبون شوقًا وحبًّا ؛ لبكيت أنت أيضًا دون أن تدري ، وتذوب في الجمع الغفير من الخلق ، ولأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم }.

( انتهى ).

Exit mobile version