
نوح يدعو ربه :
الدُّعَاء عبادة من أجلّ العبادات التي يحبها الله تبارك وتعالى خالصةً له ، ولا يجوز أن يصرفها العبد إلى غيره .
والدعاء لغةً : هو الطلب .
وشرعًا هو : توجه العبد إلى ربه فيما يحتاجه لإصلاح دينه ودنياه .
- يقول الله الملك الحق عن عبده ورسوله نوح عليه السلام :
” فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ “. (القمر : 10)
- في التفسير الكبير للرازي :
قوله تعالى : ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) ترتيبًا في غاية الحسن ؛ لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ ” إني ” بكسر الهمزة على أنه دعاء ، فكأنه قال : إني مغلوب ، وبالفتح على معنى بأني .
المسألة الثانية : ما معنى مغلوب ؟ نقول : فيه وجوه :
الأول : غلبني الكفار فانتصر لي منهم .
الثاني : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي ، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف .
الثالث : وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما ، وهو أن يقال : إن النبي ﷺ لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملًا ، ثم إن بأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة ، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم :
( لعلك باخع نفسك ) [الشعراء : 3] ، ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [فاطر : 8] وقال تعالى : ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) [المؤمنون : 27] .
فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم . فيكون معناه [إني] مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي .
المسألة الثالثة :
” فانتصر ” معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه :
أحدها : فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب .
ثانيها : فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك .
ثالثها : فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه ، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه ، يقول القائل : اللهم أهلك الكاذب منا ، وانصر المحق منا .
ثم قال تعالى : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) عقيب دعائه ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز ؟ نقول : فيه قولان أحدهما : حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه .. وثانيهما : هو على طريق الاستعارة ، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب ، وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء ، وفتح أفواه القرب أي : كأنه ذلك ، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل : فتحت أبواب السماء ، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( ففتحنا ) بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ، كما قال تعالى : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة ) [يس : 28-29] بيانًا لكمال القدرة ، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم .
المسألة الثالثة : الباء في قوله : ( بماء منهمر ) ما وجهه ، وكيف موقعه ؟ نقول : فيه وجهان :
أحدهما : كما هي في قول القائل : فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب ، وعلى هذا تفسير قول من يقول : يفتح الله لك بخير ، أي يقدر خيرًا يأتي ويفتح الباب ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني ، وهي أن يجعل المقصود مقدمًا في الوجود ، ويقول : كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك ، وكذلك قول القائل : لعل الله يفتح برزق ، أي يقدر رزقًا يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه ، فيكون الله قد فتحه بالرزق .
ثانيهما : ( ففتحنا أبواب السماء ) مقرونة ( بماء منهمر ) والانهمار الانسكاب والانصباب صبًّا شديدًا ، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه ، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب .
- التفسير الكبير :
الكتاب : مفاتيح الغيب = التفسير الكبير .
المؤلف : أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري ( ت ٦٠٦هـ ).
وهو إمام مفسر ، فقيه أصولي ، عالم موسوعي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من العلوم الإنسانية اللغوية والعقلية إلى العلوم البحتة في : الفيزياء ، الرياضيات ، الطب ، الفلك .
وُلِد في الريّ .
قرشي النسب ، أصله من طبرستان. رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان .
وأقبل الناس على كتبه يدرسونها ، وكان يحسن اللغة الفارسية .