السماوات والأرض :
سبحان من خلق السماء بلا عَمَد ، وبسط الأرض على ماءٍ جَمَد .
أودع الله سبحانه وبحمده في السماء وفي الأرض ، وفي سائر خلقه ، عجائب قدرته ، وعظيم خلقه ، ولطيف صنعه .
سبحانه .. سبحانه ، ولا يُقال لغيره : سبحان .
أقسم الملك ﷻ بالسماء في مواضع عديدة من كتابه العزيز ، مما يدل على قيمة هذا الجِرم الكوني الهائل وأهميته في حياتنا .
فلقد أقسم بالسماء في سورة البروج بقوله : ” والسماء ذات البروج ” ، وفي آية أخرى في سورة الطارق يقول جل شأنه : ” والسماء والطارق ” ، وأخرى يقول عز وجل : ” والسقف المرفوع “.
وأقسم الله ﷻ بالشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض والنفس ، أقسم سبحانه في سورة الشمس بكل تلك المخلوقات العظيمة ؛ فقال جل شأنه :
« وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ». (الشمس :1-10)
و ( القَسَم ) في اللغة : هو اليمين ، وفي الشرع : هو ربط النفس بالامتناع عن شيء أو الإقدام عليه ، بمعنى مُعَظَّم عند الحالف حقيقة أو اعتقادًا .
- يقول الله الخالق العظيم في قرآنه الكريم :
« خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ». (لقمان : 10)
من مظاهر قدرة الملك ﷻ وعزته وحكمته ؛ أنه : ” خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها “.
والعمد : جمع عماد ؛ وهو ما تُقام عليه القبة أو البيت .
فهو سبحانه وبحمده الذي رفع هذه السماوات الهائلة في صنعها وفي ضخامتها ، بغير أعمدة تعتمد عليها .
وفي مسألة الأعمدة هذه ، نرى خلافًا في تفسيرها ؛ فرأي الحسن وقتادة أن السموات ليس لها عَمَد مرئية ولا غير مرئية .
أما ابن عباس ؛ ابن عم سيد الناس ، وعكرمة ، ومجاهد أن لها أعمدة لا نراها .
وخَلْقُ السماوات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقًا مدبرًا قادرًا حكيمًا ؛ فهو إذًا المستحق للعبادة والطاعة .
والنعمة الثانية في الآية الكريمة تتمثل في قوله جل في علاه : ” وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ “.
والرواسي : جمع راسية ؛ والمراد بها الجبال الشوامخ الثابتة .
أي : ومن رحمته بكم ، وفضله عليكم ، أن ألقى -سبحانه- في الأرض جبالًا ثوابت كراهة أن تميد وتضطرب بكم ، وأنتم عليها .
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ؛ أي : وأوجد ونشر في الأرض التي تعيشون فوقها ، من كل دابة من الدواب التي لا غنى لكم عنها والتي فيها منفعتكم ومصلحتكم .
والنعمة الثالثة في قوله : وَأَنْزَلْنا ؛ أي : بقدرتنا مِنَ السَّماءِ ، ماءً ؛ أي : ماءً كثيرًا هو المطر ، فَأَنْبَتْنا فِيها ؛ أي : فأنبتنا في الأرض بسبب نزول المطر عليها .
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ؛ أي : صنف كَرِيمٍ ؛ أي حسن جميل كثير المنافع .
يقول العالم العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله :
{ يتلو تعالى على عباده ، آثارًا من آثار قدرته ، وبدائع من بدائع حكمته ، ونعمًا من آثار رحمته ، فقال : خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السبع على عظمها ، وسعتها ، وكثافتها ، وارتفاعها الهائل .
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ؛ أي : ليس لها عمد ، ولو كان لها عمد لرئيت ، وإنما استقرت واستمسكت ، بقدرة اللّه تعالى .
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ؛ أي : جبالًا عظيمة ، ركزها في أرجائها وأنحائها ، لئلا تَمِيدَ بِكُمْ فلولا الجبال الراسيات لمادت الأرض ، ولما استقرت بساكنيها .
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ؛ أي : نشر في الأرض الواسعة ، من جميع أصناف الدواب ، التي هي مسخرة لبني آدم ، ولمصالحهم ، ومنافعهم .
ولما بثها في الأرض ، علم تعالى أنه لا بد لها من رزق تعيش به ، فأنزل من السماء ماءً مباركًا ، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم المنظر ، نافع مبارك ، فرتعت فيه الدواب المنبثة ، وسكن إليه كل حيوان }.
قال الشعبي : والناس -أيضًا- من نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
آية الرعد : يقول الله تبارك وتعالى في سورة الرعد :
« اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ». (الرعد : 2)
ويقول سيد قطب -رحمه الله- في [ الظلال ] :
{ والسماوات أيًّا كان مدلولها ، وأيًّا كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور ، معروضة للأنظار هائلة ولا شك ، حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة ، وهي هكذا لا تستند إلى شيء مرفوعة بغير عمد ، مكشوفة ترونها }.
والسماء في لغة العرب معناها : العلو والارتفاع ، فكل ما علاك فهو سماء .
قال ابن منظور في اللسان : السموّ : الارتفاع والعلو ، تقول : سموْت وسميت مثل علوْت وعليْت .
وعلى هذا ؛ فالسماء تشمل كل ما فوقنا مما نشاهده وما غاب عنا من الكواكب والنجوم والمجرات .
والسماوات جمع سماء ، وهي جسم محسوس ، ولها أبواب كما جاء في القرآن الكريم : « إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ». (الأعراف : 40)
ندعوكم لقراءة : تعاقب الليل والنهار
- الأرض في القرآن :
لفظ ( الأرض ) في كتاب الله المعجز ، ورد في ثمانية وخمسين وأربع مائة موضع ( 458 موضعًا ) ، جاء في جميع تلك المواضع بصيغة الاسم ، نحو قوله تعالى :
« وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ». (البقرة : 30)
وجاء في كثير من مواضعه مقرونًا مع لفظ ( السماوات ) ، نحو قوله تعالى :
« قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ». (البقرة : 33)
الأرض في اللغة تعرف على أنها : الجرم المقابل للسماء وجمعه أرضون ، ويعبر بها عن أسفل الشيء .. وتعرف الأرض في الاصطلاح على أنها : مساحات سطحية تستخدم لأغراض البناء والزراعة ، وتشمل جميع الموارد الطبيعية .
- أكبر من خلق الناس :
يقول الملك ﷻ في قرآنه الكريم : « لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ». (غافر : 57)
يقول الإمام ابن كثير في التفسير :
{ يقول تعالى منبهًا على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة ، وأن ذلك سهل عليه ، يسير لديه – بأنه خلق السموات والأرض ، وخَلْقُهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة ، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : ” أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير “. (الأحقاف : 33)
وقال هاهنا : ” لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” ؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله خلق السموات والأرض ، وينكرون المعاد ، استبعادًا وكفرًا وعنادًا ، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا }.
اللهم اجعلنا من أولي الألباب ، الذين بتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار .
واجعلنا ممن يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم .
يقول الله الملك الحق :
« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ». (آل عمران : 190-191)